18 - 12 - 2025

الجيوبوليتيكا الرقمية: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي رسم خريطة القوة العالمية

الجيوبوليتيكا الرقمية: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي رسم خريطة القوة العالمية

شهدت العقود الأخيرة تحولاً جذرياً في مفهوم التفوق الجوي، حيث شهدت نقلةً نوعية غير مسبوقة، انتقل فيها معيار التميز من السُّرعة والتخفي إلى الذكاء التشغيلي والتفكير الذاتي للنظام، فلم تعد المقاتلات الحديثة مثل "إف-35" (F-35) الأمريكية و"جيه 20" (J-20) و "سوخوي- 57"(Su-57) الروسية مجرد منصات طائرة، بل تحولت إلى "عقول قيادية جوية" تُدير المعركة، ولقد تجاوز الهدف التفوقَ في الخواص الفيزيائية إلى السيطرة على دورة القرار من جمع البيانات وتحليلها فائق السرعة إلى تقديم الحلول التكتيكية في الزمن الحقيقي، مما يمنح الطيار وعياً ظرفياً شاملاً  (Situational Awareness) يمحو ضبابية الحرب ويكسر حدود إدراك الخصم.

هذا التحول الجوهري يدفع بالتكنولوجيا من دور الأداة التكتيكية إلى موقع المحرك الاستراتيجي الأكبر، مُعيداً تشكيل الجيوبوليتيكا للقوة، فالذكاء الاصطناعي (AI) يُعيد تعريف أركان الأمن التقليدية: الرّدع لم يعد قائماً على الحجم بل على السرعة والذكاء، والتحالفات ستُبنى حول شراكات التقنية والبيانات، ومفهوم السّيادة يتوسع ليشمل الفضاء الإلكتروني والبرمجي، وهذه الثورة تستدعي إعادة نظر جذرية في كل سياسات الدفاع، كما تفتح الباب على مصراعيه لفاعلين جدد في ساحة الصراع، حيث تصبح البرمجية الخبيرة والبيانات الضخمة رأس مال استراتيجياً يفترس فيه الذكي البطيء.

إن ما يميز مقاتلات الجيل الخامس عن أسلافها ليس مجرد تحديث تقنيً، بل هو تحول فلسفي في مفهوم الطائرة الحربية ذاتها، فهي لم تعد كيانًا منفردًا، بل نواة ذكية في شبكة قتالية عصبية متكاملة، بينما يسرق التخفي الراداري الأضواء كأبرز سماتها، فإن القوة الحقيقية تكمن في الذكاء التشغيلي الذي يحول هذا التخفي من تقنية دفاعية سلبية إلى أداة هجومية نشطة، فقلب هذا النظام النابض هو تقنية "انصهار المستشعرات" (Sensor Fusion)، التي تعمل كمُخٍ مركزي فائق، وتجمع هذه التقنية بين تدفقات البيانات الحيوية من الرادار المتقدم، والحساسات الكهروبصرية ذات الدقة العالية، وأنظمة الاستطلاع الإلكتروني، لتصهرها في منتج معرفي واحد متماسك، والنتيجة ليست مجرد صورة للمجال الجوي، بل هي نموذج حي ديناميكي، يمنح الطيار وعياً ظرفياً شاملاً يتجاوز الرؤية ليصل إلى حد الفهم الاستباقي لنية العدو وحركة ساحة المعركة بأكملها.

وتمثل التطبيقات المتقدمة للذكاء الاصطناعي النسق الحيوي الذي يحول الإطار المادي المتطور لهذه الطائرات إلى كيان قتالي ذكي، وفيما يلي أبرز هذه التطبيقات التي تعيد تعريف فنون القتال الجوي:

ففي ساحة المعركة الحديثة، حيث تُقاس الميزات بالميلي ثانية، يتولى الذكاء الاصطناعي دور المُخ الموازي الذكي للطائرة والطيار معاً، ولا تقتصر مهمته على معالجة البيانات فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تأسيس وعي ظرفي شامل (Comprehensive Situational Awareness) متقدم، وتقوم الخوارزميات المتطورة بتحليل التدفق الهائل للبيانات من كل المستشعرات في الوقت الفعلي، لا لتحديد التهديدات التقليدية فقط، بل لاستباق تحركات العدو وفهم أنماط قتاله.

وبناءً على هذه الصورة المتكاملة، يتحول النظام إلى "مساعد قتالي لا يعرف التعب"، حيث يقدم للطيار توصيات تكتيكية مُحسَّنة ومُصنَّفة حسب الأولوية والأثر المتوقع، من اقتراح أفضل مسار هروب إلى تحديد اللحظة المثلى للانقضاض، وهذه القدرة على التكيف الديناميكي مع ظروف المعركة المتغيرة - والتي يفوق سرعتها قدرة الخصم على رد الفعل - هي ما يخلق "فجوة اتخاذ القرار" الحاسمة، وبذلك لا يقدم الذكاء الاصطناعي مجرد أتمتة للمهام، بل يمنح الطيار تفوقاً معرفياً واستقلالية عملياتية تعيد تعريف معنى السيطرة في القتال الجوي، محولاً الطائرة من أداة تنفذ الأوامر إلى شريك ذكي في سباق الزمن المعرفي.

كما تُمثل الصيانة التنبؤية - المدعومة بالذكاء الاصطناعي - ثورة غير مسبوقة في الحفاظ على الجهوزية القتالية، فهي لا تكتفي برد الفعل عند حدوث العطل، بل تستبق المستقبل عبر قراءة واستقراء البيانات التشغيلية الدقيقة من الأنظمة الحيوية للمقاتلة، محولةً كمية هائلة من المعلومات إلى تنبؤات ذكية، ويُمكِّن هذا التحول من رصد مؤشرات التدهور قبل أسابيع أو حتى أشهر من حدوث أي عطل حقيقي، مما يسمح بالتدخل في الوقت الأمثل، وتترجم هذه القدرات إلى ميزتين استراتيجيتين فائقتين:

   التأثير العملياتي: حيث تزيد هذه المنظومة الذكية من "معدل الجهوزية القتالية" (Mission Capable Rate) للأسطول الجوي إلى حدود غير مسبوقة، بتحويل الصيانة من إجراء جدول زمني ثابت إلى عمليات استباقية موجهة بالبيانات.

 التأثير الاقتصادي: تخفض هذه المنهجية تكاليف دورة الحياة الكلية (Total Life Cycle Costs) بشكل جذري، من خلال استبدال الصيانة الوقائية التقليدية الأكثر تكلفة والاستبدال العشوائي للأجزاء، بتدخلات صيانة دقيقة موجهة بالحاجة الفعلية.

وببساطة، يحول الذكاء الاصطناعي جسم الطائرة من كيان صامت إلى "نظام حي" يتحدث عن صحته، ويحول الصيانة من عبء لوجستي إلى سلاح استراتيجي يدعم التفوق التشغيلي.ويُمثل التشغيل شبه المستقل، المدعوم بالذكاء الاصطناعي، أحد أعمق التحولات الفلسفية في القيادة والتحكم، فهو لا يعني إزاحة الطيار، بل تمكينه بشكل غير مسبوق من خلال تفويض المهام المعقدة للخوارزميات، بينما تُحافظ العقيدة العسكرية - وخاصة في الغرب - على أن "الحلقة البشرية في عملية القرار" تظل مسيطرة، وخاصة في قرارات الاشتباك، بينما الذكاء الاصطناعي يتولى زمام "الاستقلالية التشغيلية"، وتتجلَّى هذه الاستقلالية في قدرة الطائرة على إدارة مهام حرجة بمستوى عالٍ من الذكاء الذاتي، مثل:

 الملاحة التكيفية الذكية: التنقل بشكل آمن وفعَّال في بيئة جوية مزدحمة بالتهديدات والأصدقاء والعوائق، باستخدام حسابات متطورة تتجاوز قدرة الإنسان على المعالجة في الزمن الحقيقي.

 تنفيذ مناورات النجاة المتقدمة (AED):  من خلال القيام تلقائياً بمناورات دفاعية معقدة لتفادي الصواريخ المعادية، بسرعات رد فعل تقاس بجزء بسيط من الثانية.

هذا التفويض الذكي يحقق قفزة نوعية مزدوجة؛ تتمثل أولاً في التخفيف المعرفي، حيث يحرر الطيار من الحمل الذهني المتواصل للملاحة والدفاع الأساسي، ليركز طاقته العقلية على المستوى التكتيكي والإستراتيجي للمعركة، من حيث تقييم الموقف، اتخاذ قرارات القتال، وإدارة السرب، وثانياً في التفوق الزمني حيث يخلق فجوة سرعة لا يمكن تعويضها في رد الفعل بين الطائرة الذكية وخصمها، مما يحوِّل الثواني إلى ميزة حاسمة في المعركة، وبذلك يصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً تشغيلياً لا غنى عنه، يحول علاقة الطيار بالطائرة من "سائق مركبة" إلى "قائد نظام ذكي"، ويعيد تعريف مفهوم السيطرة في عصر الجيل الخامس والسادس من القتال الجوي.

كما يقوم تطبيق تنسيق الأسراب الذكية، بتحويل التفكير الفردي إلى العقل الجمعي في ساحة المعركة، حيث يُمهد الذكاء الاصطناعي الطريق لأحد أكثر التطورات الثورية في القتال الجوي: الانتقال من الطائرة المنفردة الفائقة إلى السرب الذكي المتكامل، ولم يعد التنسيق مجرد اتصال لاسلكي بين طائرتين، بل تحول إلى إنشاء "عقل جمعي" (Hive Mind) تكتيكي يربط بين مقاتلات الجيل الخامس المأهولة وأسراب من الطائرات المسيرة القتالية (UCAVs)في كيان تعاوني واحد.

وفي هذا السيناريو، تتحول مقاتلة الجيل الخامس إلى "قائد سرب ذكي" أو "عقدة قيادة طائرة"، بينما تؤدي الطائرات المسيرة دور "جنود متنقلين أذكياء" تنفذ المهام بتفويض عالٍ، ويعمل الذكاء الاصطناعي كمايسترو غير مرئي ينسق بين هذه العناصر في زمن حقيقي، مما يمكن السرب من تنفيذ عمليات معقدة متزامنة ومتعددة المحاور كان تنفيذها مستحيلاً في الماضي، مثل: شن هجوم منسق من اتجاهات متعارضة في نفس اللحظة، وتنفيذ هجمات كابتة أو تشويشية تلقائية لتمهيد الطريق للمقاتلة الرئيسية، وتشكيل شبكة استشعار موزعة ومتحركة لتوسيع الوعي التكتيكي إلى مساحات شاسعة.

هذا التحول لا يضاعف القوة النارية فحسب، بل يعيد تعريف هندسة التهديد نفسها، حيث يواجه الخصم نظاماً مرناً لا مركزياً يصعب تدميره، ويخلق التنسيق الذكي بين المأهول والمسير فجوة تكتيكية ساحقة، محولاً القتال الجوي من مواجهات بين منصات إلى صدام بين الشبكات الذكية، حيث يكون الانتصار حليف الشبكة الأكثر ذكاءً وتكاملاً وسرعة في اتخاذ القرار الجماعي.

ويُنتج هذا التحول التكنولوجي النوعي تحولات جيواستراتيجية زلزالية، تعيد هيكلة المشهد الاستراتيجي العالمي والإقليمي، وتفرض قواعد لعبة جديدة تماماً، فهو لا يغير أدوات الصراع فحسب، بل يُعيد تعريف مصادر القوة والنفوذ ذاتها، ويخلق حقائق استراتيجية تتطلب إعادة نظر جذرية في سياسات الردع والتحالفات والأمن القومي على جميع المستويات كالآتي:

إعادة هيكلة موازين القوة: من هيمنة العدد إلى سيادة الذكاء، فيشهد ميزان القوة الجوية تحولاً جوهرياً، حيث ينتقل معيار التفوق من الكم إلى الكيف الذهني، فلم يعد الحسم للأسطول الجوي الأكبر، بل للنظام الأكثر ذكاءً وسرعة في معالجة المعلومات واتخاذ القرار، وتُتيح هذه المعادلة الجديدة إمكانية تحدّي الهيمنة التقليدية بشكل غير متماثل، حيث يمكن لدولة تمتلك حفنة من منصات الجيل الخامس المتطورة ذهنياً أن تُشكل تهديداً وجودياً لقوة عظمى تمتلك أسطولاً ضخماً لكنه "أبطأ تفكيراً".

وبالتوازي يُحدث ظهور أسراب الطائرات المسيرة الذكية ومنخفضة التكلفة زلزلة استراتيجية من نوع آخر: فهي تكسر احتكار الدولة التقليدي للعنف الجوي المنظم، وهذه التقنية تُشكل "أداة تسوية إستراتيجية"، تمنح فواعل من غير الدول - من جماعات إلى جهات فاعلة منفردة – بعد أن كانت القدرات التدميرية والاستخباراتية حصراً لدول كبرى، مما يعيد رسم مشهد التهديدات ويفتح الباب أمام دمقرطة غير مسبوقة للقوة الجوية.

إعادة تعريف الردع: معادلة التكلفة والشلل الاستراتيجي، حيث يؤدي انتشار الأنظمة الذكية إلى قلب منطق الردع التقليدي رأساً على عقب، محوِّلاً إياه إلى ردع غير متماثل يعمل بمنطق مقلوب، ولم تعد القوة الردعية تقاس بحجم الترسانة، بل بقدرة خصمك على حساب التكلفة، فتخلق القدرة على شنِّ هجمات سريعة ودقيقة باستخدام أسراب ذكية حالة من "الشلل التحليلي" و"الارتباك الاستراتيجي" لدى القادة المعاديين.

وجوهر هذه المعادلة الجديدة يكمن في اختلال التكلفة الكارثي: فقد يضطر الخصم لإنفاق ملايين الدولارات على صاروخ دفاعي متطور ليعترض طائرة مسيرة هجومية لا تتعدى تكلفتها بضع مئات أو آلاف الدولارات، وهذه الحسابات الاقتصادية الباردة تثني عن الرد حتى عندما يكون ممكناً تقنياً.وبهذا يتحول الذكاء الاصطناعي نفسه من أداة تكتيكية إلى عامل ردع استراتيجي صامت وفعَّال، إنه يعيد صياغة مفهوم السيادة الجوية من فكرة السيطرة الفعلية على المجال الجوي، إلى القدرة على فرض تكاليف غير محتملة على أي محاولة للاختراق أو الاعتداء، مما يرسي دعائم رادع جديد قائم على منطق اقتصادي ونفسي بحت.

سباق تسلح العقل: المعركة الحقيقية تنتقل إلى الفضاء الرقمي، فلم يعد سباق التسلح الجوي يدور حول من يمتلك العدد الأكبر، بل حول من يطور العقل الأذكى، فقد تحوَّل التنافس إلى حرب خوارزميات تُخاض في معامل البيانات ومراكز الحوسبة الفائقة، حيث تُقاس القوة بسرعة المعالجة، وتفوق الخوارزميات، والسيطرة السيبرانية.وفي هذا السباق الجديد، لم يعد امتلاك الهيكل الطائر هو الفيصل، بل امتلاك روحه الرقمية، فالمعركة الحقيقية هي للسيطرة على "الكود المصدري" (Source Code)، أي الشفرة البرمجية التي تشكل الذكاء الاصطناعي للطائرة، وهذه السيطرة تعني السيادة التكنولوجية الكاملة - القدرة على التطوير، والتحديث، والتأمين، دون الاعتماد على إرادة خارجية، ويرفع هذا التحول سقف المنافسة إلى آفاق غير مسبوقة، إذ يخلق؛ حاجزاً تكنولوجياً هائلاً، يتطلب استثمارات ضخمة في البحث والتطوير وبناء الكفاءات البشرية النادرة، وفجوة استراتيجية متسارعة الاتساع: بين قلة من الدول "الصانعة للعقل" القادرة على تطوير هذه التقنيات الجوهرية، وأغلبية "المستهلكة للأدوات" التي تبقى تابعة وعرضة للثغرات الأمنية والتبعية الدائمة، كما تخلق تحولاً في مراكز القوة: حيث ينتقل النفوذ الاستراتيجي من مراكز الصناعة التقليدية إلى وادي السيلكون ونظائره العالمية.باختصار، لقد أصبحت الخوارزمية هي السلاح الاستراتيجي الأعلى، والكود المصدري هو أقنع سند ملكية للقوة الجوية في القرن الحادي والعشرين.

تحول التحالفات وكسر دوجمائية التوريد: نحو شراكات تكنولوجية مرنة، حيث دفعت السياسات التقييدية والصارمة لنقل التكنولوجيا من قبل بعض الدول الغربية (كتعليق صفقات مثل طائرات "إف-35" (F-35) لتركياإلى ولادة استراتيجية جديدة لدى العديد من الدول؛ "التنويع الاستراتيجي للتوريد"، ولم يعد الخيار مقصوراً على مصدر واحد، بل اتجهت الدول إلى سوق أسلحة أكثر تنوعاً، تبحث عن شركاء يوازنون بين الأداء المتقدم والمرونة السياسية والتكنولوجية.

وينتج عن هذا التحول ظاهرتان استراتيجيتان رئيسيتان: الأولى كسر احتكار القطب التقليدي، فلم تعد السوق العالمية لمقاتلات الجيل المتقدم حكراً على اللاعبين التقليديين، فقد برزت الصين بعروض تنافسية مثل"جيه-35" ( J-35) وسعت دول مثل تركيا، بمشروع (KAAN) وكوريا الجنوبية بمشروع (KF-21) إلى حجز مكان في نادي مصنعي الطائرات المتطورة، مما يخلق تعددية قطبية في سوق الأسلحة المتقدمة، والثانية صعود نموذج التحالف التكنولوجي المرن، حيث أصبح الشريك الأكثر جاذبية هو الذي يقترن عرضه العسكري باستراتيجية تعاونية في نقل المعرفة والتكنولوجيا والتدريب، وليس مجرد بيع منتج نهائي، وهذا يخلق تحالفات عميقة ومصالح متشابكة، تعيد رسم الخريطة الجيوستراتيجية للتعاون الدفاعي العالمي، حيث تصبح العلاقات التكنولوجية هي اللبنة الأساسية للتحالفات السياسية والعسكرية.

إعادة رسم حدود ساحة المعركة، حيث تشهد ساحات الصراع المعاصرة، من سهول أوكرانيا إلى حضر غزة، تحولاً نموذجياً في طبيعة القتال، تُجسِّده الطائرات المسيرة الذكية التي أصبحت سلاح الفاعلين من غير الدول والجماعات المسلحة استراتيجياً، فلم تعد هذه المنظومات مجرد أدوات تكتيكية، بل تحولت إلى أداة تسوية قوة غير مسبوقة، تمنح هذه الكيانات قدرات كانت حصراً للجيوش النظامية.وتقوم هذه الثورة على معادلة بسيطة مدمرة: دقة استخباراتية وهجومية فائقة، مقابل تكلفة إنتاج وتشغيل هزيلة، وهذا يخلق "فجوة تكلفة" (Cost Imbalance) تجبر الجيوش النظامية على مواجهة كابوس استراتيجي. 

وتداعيات هذا التحول عميقة ومتعددة المستويات، فعلى مستوى الفاعلين غير الدوليين، تتحول هذه التقنيات إلى "مُضاعِف قوة هائل"، يمكنهم من خوض حرب استنزاف ضد خصم متفوق تقليدياً، وإعادة تعريف النموذج التشغيلي المهيمن في مناطق عملياتهم، وعلى مستوى الجيوش النظامية، تُجبر هذه الظاهرة الجيوش على إعادة هندسة دفاعاتها بالكامل، والانتقال من أنظمة دفاع جوي تقليدية باهظة ومصممة لتهديدات جوية تقليدية، إلى تدابير مضادة غير متكافئة (Asymmetric Countermeasures) لمكافحة أسراب الطائرات المسيرة الصغيرة والذكية والمنتشرة، أما على المستوى الجيوستراتيجي، فتساهم في "تآكل احتكار الدولة للعنف المنظم"، مما يجعل المشهد الأمني أكثر تعقيداً وتشعباً، ويفتح باباً واسعاً أمام تصاعد حروب الوكالة بوتيرة وكثافة غير مسبوقتين، حيث تصبح التكنولوجيا المتاحة تجارياً هي المحرك الرئيسي للصراع.

والمعركة الخفية على الروح البرمجية للسلاح هنا هي "السيادة الرقمية" (Digital Sovereignty) الركيزةً الأساسية في هندسة الأمن القومي الحديث، ففي عصر الأسلحة الذكية، لم يعد أمن الدولة يقتصر على حدودها الجغرافية أو مخزونها المادي، بل امتد ليشمل أمن سلسلة التوريد البرمجية بالكامل التي تشغل الأنظمة الحيوية، وإن الخوف من وجود "أبواب خلفية" (Backdoors) في الشفرة المصدرية أو نقاط ضعف متعمدة، أو حتى الاعتماد المفرط على مورد برمجي خارجي وحيد، لم يعد مجرد قلق تقني، بل تحول إلى تهديد استراتيجي وجودي يمكن أن يُعطِّل منظومة الدفاع بأكملها في لحظة حرجة.

وتدفع هذه المخاوف الدول إلى إعادة تعريف أولوياتها الاستراتيجية، وتتبنى أحد مسارين رئيسيين لتحقيق الحصانة الرقمية: الأول مسار التطوير المحلي والتوطين الكامل؛ وهو السعي لبناء قدرة وطنية كاملة على تطوير وصيانة البرمجيات والذكاء الاصطناعي الحرج، مما يضمن السيطرة المطلقة ويقطع الطريق على أي تدخل خارجي، وهذا المسار طموح ولكنه مكلف ويتطلب بنية تحتية تقنية وبشرية هائلة، والثاني مسار التحالفات الرقمية الموثوقة؛ وهو التعاون مع حلفاء استراتيجيين على أساس شراكات تكنولوجية عميقة وشفافة، تقوم على تقاسم الأعباء والمخاطر مع ضمان درجة عالية من الوصول والمراجعة للكود المصدري، ويصبح اختيار الشريك هنا قراراً جيوستراتيجياً بامتياز.

وباختصار، تحولت السيطرة على الكود المصدري من قضية تقنية إلى جوهر السيادة الوطنية، حيث أن من يتحكم في برمجيات النظام هو من يتحكم في فعاليته وولائه النهائي، في ساحة معركة حيث يكون الخطر الأكبر مختبئاً في سطور من الأوامر البرمجية غير المرئية.وتُنتِج هذه الديناميكيات التحويلية مشهداً جيوبوليتيكياً جديداً بالكامل، يتميز بإعادة ترتيبٍ جذريةٍ لمراكز النفوذ التقليدية وولادةِ حقائق استراتيجية غير مسبوقة، فلم تعد فيه الهيمنة التكنولوجية حكراً على ثنائية القوى العظمى التقليدية، فقد نجحت الصين في اختراق هذا الثنائي بقوة، لتصبح قطباً تكنولوجياً وعسكرياً رئيسياً لا يُستهان به في سباق الذكاء الاصطناعي العسكري ومقاتلات الجيل المتقدم، وبالتوازي شهدت الساحة بروز قوى إقليمية مبتكِرة، مثل تركيا وإسرائيل وإيران، تحولت إلى مراكز عالمية متخصصة في تطوير وتصنيع الطائرات المسيرة الذكية، وقد منحها هذا التخصص نفوذاً استراتيجياً ومكانة تفاوضية لا تتوافق بالضرورة مع حجمها الجغرافي أو العسكري التقليدي، مما يعيد رسم خريطة النفوذ التكنولوجي ويخلق تعددية قطبية جديدة في ميزان القوة العالمي، حيث تُقاس القوة ببراعة الابتكار في مجالات متخصصة ومحورية.

كما تزيد التقنيات الذكية من هشاشة الاستقرار الإقليمي، بتآكل عتبة الحرب، فتخلق تلك التقنيات الذكية ومنخفضة التكلفة "غواية تكتيكية" (Tactical Temptation) خطيرة، حيث تخفض بشكل جذري عتبة الدخول في الصراع وتقلص الحسابات التقليدية للمخاطرة، وهذه الديناميكية تزيد من وتيرة وحدة الاشتباكات المحدودة وحروب الوكالة، حيث يصبح التصعيد خياراً مطروحاً بشكل دائم.

ويكمن الخطر الاستراتيجي في أن القدرة الخادعة على تنفيذ ضربات "سريعة، رخيصة، ونظيفة" قد تدفع صانعي القرار إلى تبني حسابات مغامرة، باعتقاد أنهم يستطيعون تحقيق مكاسب تكتيكية أو سياسية سريعة مع تفادي تكاليف حرب شاملة، وهذا ما يسمى "وهم السيطرة"  (Illusion of Control)  تزيد من حدة "مناطق الاستقرار الهش" حول العالم، وخاصة في: شرق آسيا، حيث يمكن للعمليات السريعة حول النزاعات الإقليمية أن تخرج عن السيطرة بسرعة، وأوروبا الشرقية، في سياق حرب مستعرة بالفعل ووجود أسلحة متطورة، والشرق الأوسط حيث تتفاعل هذه التقنيات مع صراعات متجذرة وعدد كبير من الفاعلين غير الحكوميين، والنتيجة هي عالم أكثر قابلية للاشتعال، حيث يصبح خيط السلام رفيعاً، وتصبح الحسابات الخاطئة لكلفة الحرب وعواقبها أكثر احتمالاً، مما يعمق من دوامات عدم الاستقرار الإقليمي.

وعندما تتفوق الآلة على الضمير البشري في ساحة المعركة، يكون المأزق الأخلاقي والقانوني، حيث يُثير التكامل المتسارع للذكاء الاصطناعي في المنظومات القتالية إشكاليات عميقة تخترق صميم الأخلاق الإنسانية والقانون الدولي الإنساني، ويظل التهديد الأكثر خطورة على المبادئ الإنسانية هو التطور نحو "الأسلحة ذاتية التشغيل القاتلة"  (Lethal Autonomous Weapon Systems – LAWS)، وهي أنظمة يمكنها - نظرياً - تحديد الهدف، وتقييم التهديد، واتخاذ قرار القضاء عليه، دون تدخل بشري ذي مغزى في حلقة القرار النهائية.

ويناقش المجتمع الدولي وساحات الفكر الاستراتيجي بجدية ضرورة وضع "أطر حوكمة عالمية" ملزمة أخلاقياً وقانونياً، لاستباق هذا المستقبل قبل استفحاله، والهدف الجوهري من هذه المناقشات هو ضمان بقاء "الحلقة البشرية ذات المعنى" (Meaningful Human Control) في صلب عملية اتخاذ القرار القتالي، وحماية القيم الإنسانية الأساسية مثل التمييز بين المدني والمقاتل، والتناسب في استخدام القوة، من أن تُفوَّض إلى خوارزميات قد تفتقر إلى السياق الأخلاقي والقدرة على الحكم القيمي، فأصبحت الأخلاقيات التطبيقية للذكاء الاصطناعي العسكري ساحة معركة فكرية حاسمة، قد تحدد ما إذا كانت التكنولوجيا ستعمل كأداة لحماية البشرية، أم كقوة منفلتة تقوِّض المبادئ التي قام عليها قانون الحرب لعقود.

ويشكل دمج الذكاء الاصطناعي في المنظومات الدفاعية المتقدمة محركاً استراتيجياً أعاد تعريف مصادر القوة والضعف على الساحة العالمية، وتتباين الرؤى الغربية تجاه هذا التحدي بين نهجين رئيسيين، مما يخلق ديناميكيات جديدة ستحدد شكل التحالفات والأمن العالمي في العقود القادمة.

النهج الأوروبي: السعي للسيادة عبر التنظيم والأخلاقيات، ويتميز الموقف الأوروبي بالتركيز على بناء "ذكاء اصطناعي جدير بالثقة" يحافظ على القيم الديمقراطية والحقوق الأساسية، وتجسد ذلك في "قانون الذكاء الاصطناعي" الأوروبي الرائد، الذي يتبنى نموذجاً قائماً على المخاطر ويركز على السيطرة البشرية، كما تدفع بروكسل باستثمارات ضخمة كجزء من خطط مثل "القارة الأوروبية للذكاء الاصطناعي" و"استراتيجية تطبيق الذكاء الاصطناعي"، بهدف سد الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة والصين وتعزيز السيادة التكنولوجية، غير أن هذا المسار يخلق مفارقة جيواستراتيجية؛ فالتركيز على التنظيم الشامل والأطر الأخلاقية الصارمة، رغم أهميته، قد يبطئ وتيرة الابتكار والتطبيق الميداني مقارنة بالمنافسين، مما يهدد بزيادة الاعتماد على شركاء خارجيين في تقنيات حاسمة ويعرقل الطموح الأوروبي لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية.

النهج الأمريكي: التسريع العملي والتفوق التشغيلي، وهو على النقيض مع النهج الأوروبي، حيث تتبنى الاستراتيجية الأمريكية نهجاً أكثر عدوانية يركز على التسريع العملي والتطبيق الميداني السريع للذكاء الاصطناعي في المجال الدفاعي، وتتجلى هذه الفلسفة في برامج طموحة مثل "طائرة القتال التعاونية" (CCA) التي تهدف لإدماج آلاف الطائرات المسيرة الذكية مع المقاتلات المأهولة، وهذا النهج لا يسعى فقط للحفاظ على التفوق التقني، بل يعيد تعريف معادلة الردع والقوة من خلال الأنظمة المستقلة منخفضة التكلفة والقادرة على العمل في أسراب ذكية.

ويُولِّد هذا التباين في الرؤى والسرعات عدة تداعيات جيواستراتيجية حاسمة، كالتوتر داخل التحالفات، فقد يدفع الفرق في وتيرة التطوير الدول الأوروبية الراغبة في التقدم السريع إلى تعميق التعاون الثنائي مع واشنطن أو شركاتها التقنية، مما يضعف مشاريع التكامل الدفاعي الأوروبي المستقل، كما أنه يعيد هيكلة الصناعة الدفاعية، كاعتماد البنتاجون المتزايد على الشركات الناشئة المبتكرة مثل (Shield AI) مما يُحدث تحولاً في قاعدة الصناعة الدفاعية التقليدية ويمنح فاعلين جدداً نفوذاً استراتيجياً، كما أنه سباق تسلح وتصعيد غير متوقع، فالسرعة التي تتطور بها هذه التقنيات (كالطائرات المستقلة منخفضة التكلفة) تفوق قدرة الدبلوماسية على وضع أطر تنظيمية دولية، مما يزيد من مخاطر سوء التقدير والمواجهات غير المقصودة في مناطق الأزمات، إضافة إلى ذلك دمقراطية التهديدات؛ حيث تقلل هذه التقنيات عتبة الدخول في الصراع، مما يمكن الدول الأصغر وحتى الفاعلين من غير الدول من امتلاك قدرات هجومية دقيقة، مما يعيد رسم خريطة الثقل العسكري الإقليمي ويجعل المشهد الأمني أكثر تعقيداً وأقل قابلية للتنبؤ.

فبينما تحاول أوروبا صياغة قواعد اللعبة الأخلاقية والقانونية، تعمل الولايات المتحدة على تغيير ساحة اللعبة نفسها عبر التفوق التكنولوجي، والمستقبل الجيوبوليتيكي سيتحدد بالقدرة على سد هذه الفجوة أو التكيف مع عالم تتحول فيه الخوارزميات والبيانات إلى أسلحة استراتيجية، وتصبح الحروب فيه أسرع وأرخص وأقل سيطرة بشرية.

الخاتمة: الصراع على عقل ساحة المعركة لم يعد دمج الذكاء الاصطناعي في الطائرات المقاتلة مجرد ترقية تقنية؛ إنه تحول جيوبوليتيكي من الدرجة الأولى، فلقد انتقل قلب التنافس الاستراتيجي من السيطرة على المجال الجوي إلى السيطرة على المجال المعرفي، حيث أصبحت الخوارزميات السريعة والذكية هي سلاح الردع الأعلى، وتتحول الطائرات نفسها إلى مجرد حوامل لهذا العقل الرقمي المتطور. وتُسرع هذه الحقيقة من سباق تسلح غير مسبوق، تصبح فيه البيانات والبرمجيات أثمن من الذخيرة، وفي خضم هذا السباق، يخلق التباين بين الرؤى الاستراتيجية الكبرى - بين العجلة الأمريكية نحو التفوق التشغيلي والحذر الأوروبي لصياغة الضوابط الأخلاقية - توتراً وجودياً داخل التحالفات التاريخية، مما يهدد بفجوات قدرات واستقلالية.وأمام أفق الجيل السادس من المقاتلات المصممة حول الذكاء الاصطناعي منذ البداية، تصبح المقومات الجديدة للقوة واضحة: الاستثمار الحاسم في الكفاءات البشرية المتخصصة، وبناء قاعدة صناعية تكنولوجية سيادية، والسعي الدؤوب لتحقيق الاستقلال في صناعة القرار الخوارزمي، ويتزامن مع هذا ضرورة ملحة وطارئة لتعاون دولي حقيقي لوضع أطر أخلاقية وقانونية تحد من مخاطر الأنظمة ذاتية التشغيل، قبل أن تفوتنا الفرصة.

والخلاصة الحاسمة هي أن معادلة التفوق الجوي قد انقلبت رأساً على عقب، ولم يعد التفوق بعدد الأجنحة المعدنية في السماء، بل بعدد الخوارزميات الذكية في الخوادم، والدول التي تدرك هذه الحقيقة وتستثمر في بناء عقلها الاصطناعي القومي، ستكون هي من يفرض شروط اللعبة في القرن الحادي والعشرين، بينما قد تجد الدول التي تتأخر في هذا المضمار نفسها عالقة في ماضٍ استراتيجي بائد، على هامش عالم جديد تُخاض حروفه بسرعة خاطفة، وبتكلفة زهيدة، وذكاء خارق، وسيطرة بشرية آخذة في التلاشي. 

--------------------------------------------

بقلم: أحمد حمدي درويش

 


مقالات اخرى للكاتب

الجيوبوليتيكا الرقمية: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي رسم خريطة القوة العالمية