لكل محنة منحة، إلا أن تكون زملكاويًا. فهنا لا منحة تُرجى ولا عزاء يُنتظر. هي محنة صافية، خالية من أي تعويض رمزي، لا يعرف عمقها إلا من عاشها كاملة الدسم، وتجرّع مرارتها حتى آخر الموسم، ثم اكتشف أن الموسم لا ينتهي أصلًا. محنة تمتد مع صاحبها من الطفولة إلى الشيخوخة، لا تحتاج إلى تاريخ مرضي لأنها تصنع تاريخها المرضي بنفسها: ضغط دم يعلو مع كل مباراة، سكر يختل مع كل وعد بالإصلاح، واحتباس بولي وروحي سببه انتظار مزمن لفرحة لا تأتي إلا بالصدفة.
«سنظل أوفياء»… ليست عبارة، بل جملة اعتراف جماعي بالعجز. هي ليست شعارًا بقدر ما هي شهادة إدانة للنادي الذي أوصل جماهيره إلى مرحلة التفاخر بالتحمل بدل الفخر بالإنجاز.
«سنظل أوفياء» عبارة تُقال عادة بعد الخذلان، لا قبله، وكأن الزملكاوي يقول لناديه: اخذلني كما تشاء، سأبقى. هو حب يشبه الإدمان، علاقة غير متكافئة بين عاشق ونادٍ عريق احترف كسر قلوب محبيه، حتى صار الخذلان جزءًا من تاريخه غير الشفوي.
محنة الزملكاوي أن علاقته مع ناديه تبدأ بالخذلان، وتستمر بالخذلان، وتتخللها فترات قصيرة من الأمل الكاذب، أشبه بإعلانات حكومية عن تحسن الأحوال.
يصبرك الزمالك بجرعة فرح صغيرة كل عدة سنوات، فقط ليضمن أنك لن تموت قبل الخذلان التالي.
والزملكاوية، بمرور الوقت، يطوّرون قدرة عجيبة على التكيّف مع الألم، فيتنقلون بين الحب المفرط، وكره الذات، وتمني الانسحاب من الحياة الكروية، قبل أن يعودوا من جديد عند أول لاعب موهوب أو رئيس مجلس إدارة يتقن فنون الدجل على الجماهير.
لا يكاد زملكاوي ينجو من السؤال الشهير، المشوب بالشفقة والدهشة: «معقولة إنت زملكاوي؟».
سؤال يُطرح كما لو كان استفسارًا طبيًا عن مرض نادر.
سؤال سمعه كل زملكاوي في لحظة ضعف، وتبعه غالبًا تدخل أهلاوي استشاري، يشرح لك أن ما تعانيه كان يمكن تفاديه باختيار صحيح في الطفولة. الأهلاوي لا يشمت فقط، بل يعتبر نفسه دليلًا حيًا على أن الحياة يمكن أن تكون أسهل لو أحسنت الاختيار، أن تختار النادي الذي يكسب للأبد.
كثيرون لم يختاروا زملكاويتهم، بل فُرضت عليهم فرضًا عائليًا، كما تُفرض الأسماء الثقيلة. نشأوا عليها في زمن كان الزمالك فيه مدرسة الفن والهندسة، وكان الفوز عادة لا احتفالًا موسميًا.
أما أنا، فذنبي أعظم؛ اخترت الزمالك بوعي طفولي مشوب بالوطنية. أحببته في اللحظة نفسها التي تعلمت فيها حب مصر. في طابور الصباح كنا نهتف لعبد الناصر، ونهتف للجمهورية العربية المتحدة، ونهتف – دون أن نعرف – لبدايات علاقة طويلة مع الخيبة.
«أبله نوال» هي المسؤولة الأولى عن هذه الجريمة الوجدانية. معلمة وطنية حتى النخاع، زرعت فينا حب الوطن، وزرعت معه حب الزمالك، دون تحذير من الآثار الجانبية. ومعها كان «عم جودة» غفير المدرسة، بعصاه وجريدته، رمزًا لنظام صارم لا يرحم العفاريت، لكنه لم يستطع أن يحمينا من مستقبل كروي مظلم.
حين طلبت «أبله نوال» زي الألعاب: فانلة بيضاء بخطين حمر، وشورت أبيض، وكاوتش أبيض، بدأت أولى التضحيات. الكاوتش الأبيض كان أغلى من البني بقرشين ونصف، وهو مبلغ كان كافيًا آنذاك لإشعال أزمة أسرية. لبستُ البني مكرهًا، فتمزق سريعًا في ظروف غامضة، (غالبًا مزقته متعمدًا) لا أستبعد فيها التواطؤ القدري. جاء الأبيض أخيرًا، وجاء معه الحكم المؤبد: من يومها وأنا زملكاوي، تخبو الزملكاوية أحيانًا، لكنها تعود أكثر شراسة مع كل أمل جديد.
ساعدني – أو ورطني أكثر – أن أغلب أصدقاء الجامعة بالصدفة زملكاوية. يشتركون في حب فيروز، وفصيلة دم واحدة، وميل مرضي للرومانسية الخاسرة.
أعترف أنني غير محايد حين أقول إن حال الزمالك من حال مصر.
هي نظرية شخصية، لكنها تبدو منطقية لمن يربط بين الانحدار العام وتدهور التفاصيل. في الخمسينيات والستينيات، حين صعدت مصر سياسيًا واجتماعيًا، ازدهر الزمالك جماهيريًا وبطوليًا. سبع بطولات كأس، وثلاث بطولات دوري في سنوات قليلة. ثم انتكست البلاد، وانتكس النادي، وكأنهما وقّعا عقد شراكة في الصعود والهبوط.
اليوم يعيش الزمالك حالة من حالات «أزمة دائمة»، لا طارئة ولا عابرة. أزمات مالية تلد أزمات إدارية، وإدارية تُنتج أزمات قانونية، وفنية تكمّل المشهد العبثي. ديون، مستحقات متأخرة، مجالس إدارات تتصارع، قرارات فردية، وشعارات إصلاح تُستهلك أسرع من بيانات التعاقد مع مدرب جديد. النادي لا يخرج من حفرة إلا ليسقط في أخرى أعمق، بينما يُطلب من الجمهور الصبر، دائمًا الصبر.
لا قداسة لنادٍ بلا قانون، ولا بطولة تُغفر بها المخالفات. والأهلي – مهما اختلفنا معه – يقدم نموذجًا متفردًا في الالتزام المؤسسي، نموذج يفضح حجم العبث في الضفة الأخرى. لا يهمني أنه يتقن تستيف أوراقه وتصليح أخطائه بمعونة مقدرة من آخرين، ما يهمني أنه في كل أحواله مؤسسة، هذا بالضبط ما يفتقده الزمالك الذي يعشق الفردية ويقوم على التناحر بين أبنائه الذين غالبًا ما يخذلونه.
رغم كل هذا، ورغم السخرية والمرارة، يظل الزملكاوي متمسكًا بأمل عنيد، يكاد يكون غير عقلاني. أمل بأن تقوم مصر من كبوتها، ويصحو الزمالك من غيبته الطويلة. أمل يعرف صاحبه أنه قد يُخدع مرة أخرى، لكنه يتمسك به، لأن التخلي عنه يعني الاعتراف بأن هذه المحنة… بلا نهاية.
--------------------------
بقلم: محمد حماد






