يفتتح نجيب محفوظ مجموعته القصصية «حكاية بلا بداية ولا نهاية» (1971م) بالقصة التي حملت اسمها، حكاية تمزج بين الدراما المسرحية والنفس القصصي، يغلب فيها عنصر الحوار على عناصر السرد الأخرى. يطرح محفوظ من خلالها قضيته الفكرية، الصراع بين العلم والدين، وما يعتري الطرفين من انحرافات حين يغيب العقل أو تغيب الروح. ينتهي هذا الصراع عند محفوظ إلى حل توافقي يرى ضرورة وجود الطرفين معًا، مع ضرورة ابتعاد التدين عن الخرافات واستغلال حاجة الناس، وأن يتحرر العلم من الغرور والادعاء بقدرته على كشف كل الحقائق.
يدور الصراع بين نقيضين رمزيّين محمود، وريث الطريقة الأكرمية وصاحب النفوذ الروحي الذي يطيعه المريدون طاعة عمياء، وعلي، الشاب المتعلم الذي يسعى إلى تفنيد الخرافات المحيطة بالطريقة وتنقيتها عبر البحث في الكتب والمخطوطات. يعثر على وثائق تكشف تاريخًا ملتبسًا للعائلة، الأكرمية الجد كان مجرمًا قبل توبته، وعمته تركت دينها وتزوجت من إنجليزي، أما محمود الوريث الحالي فتكشف الأحداث أنه غارق في الملذات، يعيش حياة الترف والفساد معتمدًا على نذور الفقراء الذين يسحقهم العوز.
يتصاعد التوتر بين الفريقين إلى حافة الاحتراب الدموي في الحارة، كاد أنصار كل طرف أن يفتكوا بالآخر. غير أن المفاجأة الدرامية الكبرى تأتي حين تتكشف الحقيقة، علي ليس إلا ابن محمود من علاقة غير شرعية قديمة مع المدرسة زينب. بهذه الصدمة يكشف محفوظ عن تهاوى الحدود التي رسمها كل طرف لتجريم الآخر، فيدرك الجميع أن الدنس والقداسة لا يفصل بينهما سور عالٍ، وأن الإنسان قد يعبر بينهما في لحظة ضعف أو صحوة.
يلفت نجيب محفوظ النظر إلى نسبية الخطايا والفضائل، فالجد، رغم كونه مجرمًا في بداياته، استطاع أن يتوب ويجد طريقًا مستقيمًا، وهو ما كشفت عنه المخطوطات التي كتبها تلاميذه رجل جمع بين الشر والخير، كان قطاع طرق ثم تغلب عليه خيره. أما محمود، فبرغم اعتقاده بنقاء ثوبه الروحي، فإن حياته تكشف عن انغماسه في الدنس واستغلاله للمريدين، لكن الصراع مع ابنه جعله يكتشف ما كان خافيًا عنه يبحث عن طريق جديد ليتلاءم مع العصر الحديث فأفكاره القديمة بما فيها من خرافات لم تعد صالحة اليوم.
يحضر في القصة أيضًا الشيخ تغلب الصناديقي بوصفه الحكيم القادر على الجمع بين الطرفين، يعرف ضعف النفس البشرية، ويمثل المرشد الروحي المتزن. يحث محمود أن يتبع وصية سلفه الذي طلب منه أن يبحث عن طريقه الخاص ويرى في علي الرجل الأصلح لوراثة الطريقة إذا ما تزوّد بالحكمة، وأنه قادر على ضخ دماء جديدة في مسارها يجمع بين التفكير العقلاني والحس الروحي.
لتتبلور رؤية محفوظ لا خلاص من دون التكامل بين الأب والابن، بين الدين والعلم. فالعلاقة بينهما ليست عكسية أو معركة صفرية وإنما هي علاقة تكامل في بناء الإنسان والعالم.
يواصل محفوظ في القصة الثانية «حارة العشّاق» مناقشة الإشكالية الفلسفية ذاتها، لكن من زاوية نفسية هذه المرة، عبر شخصية عبدالله بما تحمله من حمولة رمزية شاملة. يمرّ عبدالله بعدة مراحل متعاقبة تمثّل تطوّر الوعي الإنساني وتقلّباته.
تبدأ المرحلة الأولى بعمله في الأرشيف، يغرق في رتابة، في حياة أقرب إلى الوجود البدائي، عمل بلا متعة ولا فسحة للراحة، همه الأول والأخير أن يوفر لقمة العيش. ثم يترقى في عمله، فيخف العبء الوظيفي، البحث عن الراحة والمتعة، لينتقل إلى عهد القهوة؛ عهد الحياة الحسية، حيث يقع في حب هنية، وينسجم مع نمط عيش جديد يستمر خمس سنوات.
غير أن الشك يتسلل إلى قلبه، فيطلق زوجته اعتمادًا على حواسه التي أضلته، ليدخل مرحلة جديدة هي مرحلة الزاوية مع الشيخ مروان، الذي يكشف له أنه ظلم زوجته حين طلقها، وأن القلب هو الدليل الحقيقي للاهتداء إلى الحقيقة. يقتنع عبدالله ويدخل في طور التدين، لكن هذا اليقين لا يلبث أن يتآكل، فيعود الشك بعد عام واحد بعدما يكون أنجب ابنًا أطلق عليه اسم مروان دليلًا على استمرار هذا النمط الفكري.
هنا يظهر عنتر المدرّس، الذي يطرح العقل باعتباره الملاذ الأخير، وأن القلب غير قادر على إصلاح الحياة وأن الحقيقة ترى من خلال العقل فيستعيد عبدالله رشده بعد أن يطلع على الكتب، ويدرك مجددًا حجم الظلم الذي ألحقه بزوجته. ينجب طفل آخر يطلق عليه اسم عنتر في إشارة إلى استمرار التفكير العقلي كما فعل مع طفله الأول الذي يمثل اليقين القلبي، تقديرًا لدور كلٍّ منهما في تشكيل وعيه وصناعة حياته الجديدة.
يشكل مروان وعنتر، عبر حضورهما المتوازن في حياة عبدالله، معادلة الاستقرار التي تفضي إلى حياة أكثر سعادة، توفر له قدرًا من الراحة والأمان، يفسّر كل منهما الجانب الذي يعجز الآخر عن الإحاطة به. غير أن هذا التوازن لا يلبث أن ينهار مع حلول عهد الشك واليقين تحت سلطة مراد عبدالقوي، حين يُلقى القبض على مروان وعنتر معًا من دون تهمة واضحة، ويترك عبدالله وحيدًا في مواجهة الحيرة، عاجزًا عن اتخاذ قرار حاسم.
تمارس السلطة هنا منطقها المجرد، فتبلغه أن الحقيقة لا تميل إلى كفة بعينها، وأنها تقف عند نسبة خمسين في المئة بين الشك واليقين، ولا وجود لمرجح خارجي، ولا من يختار نيابة عنه. سلطة مادية لا تعترف بالبعد الإنساني، تفصل بين الحارة وأهلها، ولا تقيم وزنًا لحياة الأفراد، ولا تقدم إجابات جاهزة، تفرض على الإنسان أن يصنع إجاباته بنفسه، ويتحمل تبعات اختياره منفردًا.
وتتجلى هذه الأزمة بوضوح في علاقة عبدالله بزوجته هنية؛ فعندما شك فيها للمرة الأولى اعتمادًا على الحواس، استطاع القلب/الدين أن يكشف فساد هذا الاعتقاد ويعيدها إلى حياته. وفي المرة الثانية، حين جاء الشك عبر المشاهدة، تولّى العلم تصحيح الخطأ وكشف زيف الظن. أما في المرة الثالثة، في زمن الشك الخالص، عجز عبدالله عن اتخاذ قرار نهائي، وظل أسيرًا لشكه، غير قادر على الحسم، بما يعكس مأزق الإنسان حين يُجرّد من أي مرجعية معرفية أو روحية.
يكتسب اسم هنية دلالة رمزية لافتة، يحيل إلى علاقة الإنسان بسعادته الهشّة، تلك السعادة التي كثيرًا ما يبددها المرء بيديه تحت وطأة الأفكار والاعتقادات المتناقضة.
وكما هو شأن نجيب محفوظ في بناء عالمه الرمزي، تكشف الأسماء في القصة عن دلالاتها الواضحة: عبدالله هو الإنسان في عموميته، مروان يمثل الدين/القلب، عنتر يرمز إلى العلم والقوة العقلية، بينما يحيل مراد عبدالقوي إلى السلطة بوصفها قوة عمياء محايدة، لا تنحاز إلا لمنطقها الخاص.
تتحول القصة إلى رحلة رمزية في صراع الحواس والقلب والعقل، وتبدّل يقين الإنسان بين الدين والعلم والشك.
ويلاحظ أن الطابع الحواري يهيمن على أغلب قصص المجموعة، وهو أحد الأنماط السردية الشائعة في قصص نجيب محفوظ، لما يتيحه هذا النمط من قدرة على تعرية الشخصيات من الداخل، وكشف صراعاتها الفكرية والنفسية، وتحويل الحوار إلى أداة فلسفية لا تقل أهمية عن الحدث ذاته. فالحوار عند محفوظ في القصص هو وسيط لتمرير الأفكار، وتكثيف الدلالة، وتسريع الإيقاع السردي، ويمنح النص طابعًا مسرحيًا يعمق الإحساس بالصراع ويقربه من وعي القارئ.
-------------------------------------
بقلم: د. عبدالكريم الحجراوي







