أتاحت لي ظروف عملي أن أتابع عن قرب تطورات التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، من خلال انسحاب حكم زمرة الجنرالات التي سادت وتسببت في اللقب الذي أطلق علي دولها "جمهوريات الموز"، ولقد قمت بإجراء دراسات مختلفة عن ذلك، ولكنني اليوم أريد أن أركز علي تجارب ثلاث لحكم الجنرالات في ثلاث دول هامة هي الأرجنتين وتشيلي والبرازيل.
1. الارجنتين:
بعد انتهاء حكم " الجونتا " العسكرية في الأرجنتين، حاول راؤول ألفونسين أول رئيس مدني أن يطبق " حكم النبي سليمان " (حين قضي بين أمرأتين تنازعتا طفلا أمامه، فقد أمر بسيف كي يقسم الطفل بينهما، فوافقت امرأة بينما صرخت الأخري رافضة وهي تستعطفه أن يبقي علي حياة الطفل ويعطيه للمرأة الأخري، وهنا عرف سليمان من هي الأم الحقيقية)..
ولكن راؤول لم يكن سليمان، ولم تكن الأرجنتين هي ميدان "مايو" أمام قصر الحكم، في ثلوج الشتاء وأفران الصيف يهتفن بأسماء أبنائهن الذين أختطفهم النظام العسكري وألقي بهم في النهر أو دفنهم في الصحاري.. أن خيار سليمان الأول بلا شك يؤكد بدء عهد جديد يسود فيه العدل ولا يفلت مجرم من العقاب..
وبالفعل تم إلقاء القبض علي قيادات المجلس العسكري الذي حكم الأرجنتين، وصدرت أحكام متعددة عليهم.
إلا أن المدن الأرجنتينية عانت من إنفجارات متتالية لم يشك أحد في أن مصدرها هو من صغار الضباط في أجهزة الأمن والجيش الأرجنتيني، وكانت الرسالة واضحة:"لن تنعم الأرجنتين بالإستقرار إذا استمر ألفونسين في عملية العدالة الإنتقالية"..
وكان علي ألفونسين أن يراجع نفسه، وكم كانت المراجعة مؤلمة علي رجل يؤمن بالحكم الدستوري ودولة القانون.. لكنه في النهاية أضطر للتراجع عن بعض مقتضيات العدالة حفاظاً علي الدولة، وتأميناً للإجراءات الحثيثة التي كان قد بدأها لإعادة الحياة الديمقراطية وإنعاش الإقتصاد الأرجنتيني.. وربما طبق في هذه الحالة "حكمة سليمان" وإن لم يكن "قضاءه"!..
وقد ظل الرئيس الأرجنتيني متردداً ما بين الأخذ بمقتضيات العدالة ومطاردة الجناة، وبين الحفاظ علي مكتسبات الحياة الديمقراطية التي يتمتع بها الأرجنتينيون بعد سنوات سوداء من الحكم الشمولي الإستبدادي للجونتا العسكرية، حتي سلم الرئاسة لخلفه كارلوس منعم عام 1989، وهو الرئيس الذي حسم الأمر بإصدار عفو شامل عن كل القيادات العسكرية سواء تلك التي صدرت ضدها أحكام أو تلك التي لا زالت في المحاكم..
أي أن "منعم" – ربما بجيناته الأصلية الشرق أوسطية – اختار أن يسلم الطفل لمن يعرف الجميع أنها ليست الأم، وهو في هذه الحالة لم يطبق لا قضاء ولا حكمة سليمان، وإنما حكمة البراجماتية السياسية الإنتهازية..
إلا أنه بإنتخاب الرئيس نستور كيشنر عام 2005، أصدرت المحكمة العليا قراراً بعدم دستورية العفو الذي تم لجرائم العسكريين في الحكم، وأعيدت محاكمات القيادات العسكرية مرة أخري، وكان أغلب من بقي علي قيد الحياة من تلك القيادات قد أشرف علي الثمانين، وهكذا صدر حكم علي قائد الإنقلاب العسكري خورخي فيديلا والذي حكم الأرجنتين حتي عام 1981، حيث صدر ضده حكم بالسجن لمدة 25 عاماً، رغم أن عمره وقت صدور الحكم كان 85 عاماً (مات في سجنه عام 2013) ..
ولم يكن لدي قيادات وضباط الجيش أي اعتراض لأن زمناً طويلاً كان قد مضي، ولم يعد هناك من لا يزال يشعر بالولاء لهؤلاء القادة المجرمين الذين انتهكوا كل حقوق الشعب الأرجنتيني وساموه صنوف العذاب، مثل خطف المعارضين وإخفائهم وقتلهم، وتهديدهم بقتل أطفالهم الرضع، وإغتصاب نسائهم.. إلخ ..
وكان الدفاع الوحيد الذي تمسك به هؤلاء القتلة، هو أنهم أرادوا حماية شعب الأرجنتين من الشيوعية، بهدف تحقيق الإستقرار والتقدم.. والحقيقة التي كشف عنها تاريخ هؤلاء السفاحين هي أنهم فشلوا حتي في الوظيفة العسكرية التي تدربوا عليها، عندما قامت القوات البريطانية بإذلال قوات الجيش الأرجنتيني في جزر المالفيناز (الفوكلاند)، واجبروهم علي الانسحاب بملابسهم الداخلية!!.. ( يتبع )
---------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق







