بين ديسمبر 1987 وديسمبر 2025 تمتد ثمانية وثلاثون عامًا لا يمكن قراءتها كسلسلة أحداث منفصلة، بل كمسارٍ واحد طويل، تتبدّل فيه الأدوات والوجوه، بينما تبقى البنية العميقة للصراع على حالها. ما بدأ بانتفاضة شعبية عفوية في الأزقة والمخيمات، بلغ ذروته المؤلمة في حرب إبادة واسعة النطاق، أعادت تعريف معنى القوة، وحدود السياسة، وكلفة الانتظار.
لم يكن هذا التاريخ خطًا مستقيمًا، بل دائرة تعود إلى نقطة الانفجار كلما فشل الحل.
1987 الشرارة التي أعادت تعريف الفلسطيني
اندلعت الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987، إثر حادثة دهس في جباليا، لكنها سرعان ما تجاوزت الحدث لتتحول إلى فعل جمعي شامل. إضرابات، عصيان مدني، لجان شعبية، وحجارة في مواجهة جيش مدجج بالسلاح.
لم تكن الانتفاضة احتجاجًا فقط، بل إعلانًا تاريخيًا بأن إدارة الاحتلال لم تعد ممكنة بلا كلفة سياسية وأخلاقية.
في تلك اللحظة، تفوق الشارع على النخب، وتقدّم الفعل الشعبي على الحسابات السياسية، وهي مفارقة ستلاحق التجربة الفلسطينية لاحقًا.
1993 أوسلو… من الوعد إلى التعقيد
شكّلت اتفاقيات أوسلو انتقالًا من منطق الانتفاضة إلى منطق التفاوض. وُلدت السلطة الفلسطينية، وبدأت مرحلة الإدارة الذاتية المحدودة، وسط وعود بدولة قادمة.
لكن اغتيال رابين، وتسارع الاستيطان، وتعقيد المنظومة الأمنية، حوّل الاتفاق من أفقٍ سياسي إلى إدارة أزمة طويلة الأمد.
اتسعت الفجوة بين النصوص والواقع، وتآكل الرصيد الشعبي للعملية السياسية، وبدأت الأرض تُهيّأ لانفجار جديد.
2000 الانتفاضة الثانية… العسكرة المفتوحة
جاءت انتفاضة الأقصى كتحوّل نوعي في شكل الصراع. لم تعد الحجارة في الواجهة، بل السلاح، والعمليات، والاجتياحات.
دخلت المدن الفلسطينية مرحلة صدام مباشر، وفرضت إسرائيل وقائع جديدة بالقوة، من إعادة احتلال المدن إلى بناء الجدار.
كان الانسحاب الأحادي من غزة عام 2005 لحظة مفصلية، لكنه لم يؤسس لسيادة، بل لحصار سيصبح لاحقًا أحد أعنف أدوات الصراع.
2006–2014 الانقسام والحروب الدورية
أفرزت انتخابات 2006 واقعًا سياسيًا منقسمًا، تحوّل سريعًا إلى انقسام جغرافي ومؤسسي.
غزة تحت حصار خانق، والضفة تحت سلطة منزوعة الأفق السياسي.
شهدت هذه المرحلة حروبًا متكررة (2008، 2012، 2014)، رسّخت معادلة الردع المتبادل دون أن تفتح باب الحل، بينما غابت الرؤية الوطنية الموحدة، وحضر الإقليم المتحوّل بقوة في حسابات الصراع.
2018–2019 عودة الجسد إلى الواجهة
مع انسداد الأفق، عادت المبادرة إلى الشارع عبر مسيرات العودة.
كان الاحتجاج سلميًا في شكله، قاسيًا في كلفته، ومشحونًا بدلالات رمزية عميقة اللاجئ يواجه السياج، والجسد الأعزل يطالب بالحق المؤجل.
أعادت هذه المرحلة التذكير بأن الفعل الشعبي لم ينتهِ، بل يبحث دائمًا عن صيغة جديدة للتعبير.
2020–2022 هدوء هش وتحولات صامتة
بدت الساحة الفلسطينية هادئة نسبيًا، لكن الهدوء كان مضللًا.
تسارع الاستيطان في الضفة، تعمّق الحصار في غزة، وتبدّلت البيئة الإقليمية مع موجة تطبيع، أعادت ترتيب الأولويات الدولية على حساب القضية الفلسطينية.
كانت كل عناصر الانفجار حاضرة، بانتظار الشرارة.
2023–2025 حرب الإبادة… الكسر الأكبر
جاءت عملية 7 أكتوبر 2023، لتفتح كل الملفات دفعة واحدة.
دخلت غزة حربًا شاملة غير مسبوقة في تاريخ الصراع تدمير واسع، خسائر بشرية هائلة، انهيار شبه كامل للبنية التحتية، واستهداف منهجي لمقومات الحياة.
لم تكن الحرب عسكرية فقط، بل سياسية وإنسانية وأخلاقية، أعادت طرح سؤال الشرعية، وحدود القوة، ومعنى الأمن في المنطقة بأسرها.
مع حلول 2025، بدأت ملامح مرحلة جديدة تتشكل:
هدن جزئية، تبادلات أسرى، ضغوط دولية، نقاشات حول إدارة انتقالية للقطاع، واحتجاجات داخلية تعكس عمق المأساة وتعقيد المستقبل.
لكن أي تسوية شاملة ما زالت غائبة، وأي تهدئة طويلة تبدو مشروطة بتغيير لم يحدث بعد.
الصراع كدورة غير مكتملة
بعد 38 عامًا، تبدو الصورة أكثر وضوحًا وقسوة في آنٍ واحد.
الصراع لم يتوقف، بل أعاد إنتاج نفسه بأشكال أكثر عنفًا.
من الحجر إلى الصاروخ، من الشارع إلى الطاولة، ومن الحصار إلى الإبادة.
الثابت الوحيد هو أن جذور الأزمة لم تُعالج.
وأن كل محاولة لتجاوزها دون حل عادل، تعني فقط تأجيل الانفجار التالي.
في ذكرى الانتفاضة، لا يُستحضر الماضي بوصفه حنينًا، بل باعتباره مرآةً للحاضر، وتحذيرًا من مستقبلٍ لن يرحم استمرار الدوران في الحلقة نفسها.
------------------------------
بقلم: حاتم نظمي






