18 - 12 - 2025

مرثية عن ليلة من صنع الله: كوني حياة

مرثية عن ليلة من صنع الله: كوني حياة

مثل قطرة مطر عذبة صافية شفافة ومكثفة مكتملة منفصلة عن عالمها ممثلة له، تكشف كتابات فؤاد مرسي عن قلبها باقتصاد حاد جارح. لفتت أعماله انتباهي ربما منذ أعماله الأولى رحم الشوارع، تحولات البحر، شارع فؤاد الأول فقد أوجد لنفسه مكانا بين الكتاب بخصوصية النعومة التي تتسلل دون ضجيج حفر بأسلوبه المتفرد المخلص لمدينته وبيئته عالمه، وظل وفيا له سواء في القصة القصيرة أو الرواية أو في دراساته وكتبه عن التراث، فأعماله الأخرى عن معجم رمضان، القط في المعتقد الشعبي أو القصص القصيرة في السودان أو المعاجم عن أدباء الأقاليم والقليوبية بصفة خاصة، تكمل فسيفساء اللوحة التي يرسمها المثقف عن البشر المشغول بهم سواء في استقصاء حياتهم أو الكشف عن عمق تمسكهم بالحياة ورحلة مواجهتهم للتغيرات التي تحدث لهم وحولهم.

كل شيء هادئ في أعمال فؤاد مرسي هدوءا خادعا، فالحياة تمور تحت تكويناته البنائية البسيطة وشخصياته الشحيحة الظهور ولغته الشفافة التي لا تشغلك بصورها الخيالية لغة تجرح لك الواقع بعنفوانه ومرارته والانكسار بفعل الفخاخ المتكررة.

مرثية عن ليلة من صنع الله

بعد مرور ما يقرب من خمسة عشر عاما من ثورة يناير 2011 بدأت الكتابة تأخذ منحى جديدا، لبس الغضب ثوب العقل والتؤدة والتأمل، ومن المنتظر أن نقرأ عنها المزيد من الأعمال المتمهلة. كنت قد أصدرت في 2017 روايتي "مدن السور" وقلت عنها أنها رواية الغضب، دستوبيا حملت طاقة انكسار حلم الثورة وسرقتها وجرنا لسرقة الهوية ذاتها ومكتسبات سنين من النضال نحو الحرية، في الوقت الذي ظهرت فيه أعمال متفرقة تنعيها أو تلقي الضوء على عنصر من عناصرها مثل "قطط العام الفائت" ورواية "حتى لا أنسى أنني كنت هنا" عن شهداء ومصابي الثورة لإبراهيم عبد المجيد و"باب الخروج" و "كل هذا الهراء" لعز الدين شكري فشير، و"أجندة سيد الأهل" لأحمد صبري أبو الفتوح، و"جمهورية كأن" لعلاء الأسواني. كما تناول عمار علي حسن سقوط الإخوان في روايته "سقوط الصمت"، ورواية "عطارد" لمحمد ربيع، و"ظل التفاحة" لمحمد إبراهيم قنديل، "قريبًا من البهجة" لأحمد سمير، ورواية "أحاديث الجن والسطل" لمحمد الجمال، و"بعد الحفلة" ليحيى الجمال ورواية "جمهورية القرد الأحمر" لياسر أحمد و"سيجارة سابعة" لدينا كمال. وغيرها من الروايات التي كتبت عن الثورة بطرائق متعددة.

رواية ليلة صنع الله هي تقطير واف للبهجة التي صنعها حلم شعب بأكمله بالخلاص، واكتشف وهو يرنو إلى السماء أن صناعة هذه الليلة لا يمكن أن تكون بشرية هي صناعة الله الخالق وهبته لهم ولروحهم القديمة، التي تسعى للملمة شتاتها الذي تركته على محطات كثيرة متباعدة، قبل أن تقرر اعتزال العالم روحا، بدت أكثر توهجا وارتجافا وهي تتجه إلى الهناك.

في الطريق إلى هذا الجمع الذي يتوهج يقابل البطل في السيارة خضوع الراكبين لأوامر السائق، ويكتشف أنه يغرد وحده فيواصل سكوته واستمراره على الطريق. وتأمله لما كان عليه المكان من قبل من اخضرار حتى حافة الأفق، انقلب إلى علب اسمنتية فيبدأ في رصد عناصر مرثيته يافطات تعلن عن ملايين التجارة وزحف رأس المال الذي يتحدى عيون الراكبين والراجلين، الذكريات في مواجهة قبح الواقع، لحظة الصدق التي تكشف المجد القديم المطمور في المخطط الأولى لرواية الشاب الجالس بجواره في السيارة. يعود فؤاد مرسي هنا لموضوعه الأثير، بنها التي يحبها بما كانت عليه ويقارنها بما أصبحت عليه، يعود ليجعل المكان يحتل القلب من العالم يبحث فيه الشاب عن الكنز. لكن الكنز قد يكون مجرد زئبق أحمر أو قطع أثرية نادرة لا يلتفتون للكنز الحقيقي الذي بين أياديهم ويندفعون لهدم البيوت الدافئة العامرة بالحياة من أجل كنز زائف، الحفر تحت البيوت يتم ليلا، جدران تتساقط على أصحابها ومشاجرات بين جيران تنتهي بقتيل وقاتل. يعود الراوي ليظهر مخاطر الطريق حين يتركون القرى العامرة إلى الصحراء، مخاطر جاءت مع الحلم مع السائرين من كل البقاع إليه، مخاطر حدثت ومخاطر محتملة يلوح بها السائق ويجبر الركاب على دفع أجرة إضافية ويتخذ من مدق طريقا جانبيا يأخذهم إليه، ويستسلم البطل لكن الراوي يخلق له استراحة من حلم جميل؛ قرية من زمن آخر قرية من ماضي البطل ومن حنينة، قرية مستسلمة للطبيعة دون غيرها مستغنية عن تفاصيل العالم الحالي بكل مفرداته، لكنها قرية غامضة اختفت نساؤها وحين ظهرت واحدة كانت مغلفة الوجه ببرقع. يغيب السائق ويعود ليذكر المخاطر ويتسرب الركاب خالقين لأنفسهم فرص النجاة المنفردة، حتى عادت السيارة بعد أيام إلى الطريق الصحيح لتنقل الينا عالما مزدحما بالكلام، بائع الصحف يصف له الميدان، الكعبة التي يدورون حولها ويتبركون بها وسط الحلم الكبير الذي اعلن المذياع عن اشراقه. وسط مناخ من الإثارة والتشويق الناعم يخبئ الراوي حلمه الغامض المتقد الجاذب، مثل مغناطيس شديد لكل الناس، حلم يتم تناقل وهجه فوق الطرق.

بين لقطات الثورة الحلم والسيارة التي يقودها سائق يتحكم في العباد، تتكشف مشاهد الفرح والحمد لله، وأغنيات الحلقات الجماعية والإنشاد وتطوح الأجساد المنتشية بها والتحام الشباب بالشيوخ في لحظة فاصلة دفعتهما معا لمحاولة الوصول إلى الميدان لقاعدة التمثال الفارغة، لكن العربة تنقلب وينجو الشيخ الراوي ويظل على صلة بحلمه موصولا بزيارات الشاب ورؤيته لما يجري في أرض كعبة الملايين، عن الأيام التي تحول الناس فيها إلى ملائكة، ودعوة الشباب للأهالي بالنزول والالتحاق بهم وتنظيف البالوعات لتستوعب الماء الراكد وتنظف المكان، الالتحام بالناس ومشاهد تناول الطعام الذي يمنحه المارة لهم واختبار حقيقة اللحظة وإدراك النور الذي أصاب الجميع معا.

يقول الراوي للحياة كوني حياة. حياة حقيقية أو موتا أو أي شيء سوى ما أنت عليه الآن. فتكون لحظة الصدق في الميدان فارقة ويكتمل الحلم.

ولأنه حلم يفاجئنا الكاتب بتحول في بنية النص على صعيدين على أرض الواقع، الأول هو خطابات صنع الله لحبيبها: المرأة الحالمة على أرض الواقع حبيبة ترضى بوجوده مجرد صوت في التليفون، تظهر المراة في ومضات غير متحققة مثل راعية الغنم، الشهاب الذي أضاء ثم اختفى. تيمة تكررت في أعماله القصصية وفي ثلاثيته الروائية.

الثاني هو مخطوط الرواية وبطلها عبد المجيد رسلان الذي يأخذنا إلى متغير آخر يفسر لنا ما جاء في الأحداث السابقة ويتشابك معها، وتأتي النهاية بانتحار الكاتب كأن الثورة قتلت نفسها بنفسها، نهاية لم اقتنع بها وبقى هذا التحول غير مريح بالنسبة لي، حتى لو كانت الثورة قد فشلت وسرقت وندفع الآن ثمن قيامنا بها، فمن حقنا في الفن والكتابة أن نحلم بعالم أفضل أكثر إنسانية.
---------------------------------
بقلم: هالة البدري