مع إعلان نتائج انتخابات مجلس النواب 2025، لم تنتقل البلاد إلى مرحلة ما بعد الاستحقاق بقدر ما دخلت منطقة ضبابية تتشابك فيها الأسئلة مع المخاوف. فالانتخابات التي كان يُنتظر أن تعيد ترتيب المشهد السياسي وتثبّت دعائم المرحلة المقبلة، تحوّلت إلى محور جدل واسع حول مدى استقرار العملية الديمقراطية، وما إذا كانت ستواصل مسارها أم ستتعثر عند أول منعطف.
وتجاوز الجدل حدود المنافسة الانتخابية الطبيعية إلى نقاش أوسع حول طبيعة تدخل بعض الأجهزة السيادية في العملية الانتخابية. فبحسب ما تداوله مراقبون وسياسيون، بدا أن هناك اختلافًا في الرؤى داخل دوائر صنع القرار بشأن شكل البرلمان المقبل وتوزيع موازين القوى داخله، وهو ما انعكس - وفق التحليلات - في إشارات متباينة خلال مراحل إدارة الانتخابات. هذا المناخ غذّى الانطباع بوجود ما يوصف إعلاميًا بـ "صراع الأجنحة" داخل بعض المؤسسات، وتباينًا في تقديراتها حول المرشحين القادرين على ضمان الاستقرار السياسي.
النقطة المفصلية داخل هذا المشهد جاءت عبر التصريحات الرئاسية غير المعتادة، التي طالبت الهيئة الوطنية للانتخابات بفحص ما جرى في عدد من الدوائر، والتدقيق في الطعون، واتخاذ ما يلزم من إجراءات، وصولًا إلى إمكانية إلغاء نتائج دوائر بأكملها إذا لم تُعبّر عن الإرادة الحقيقية للناخبين. هذه الرسائل، التي وصفها البعض بأنها "إنذار سياسي"، أعادت التذكير بأن نتائج الصناديق ليست نهائية، وأن العملية برمّتها ما زالت قابلة لإعادة التقييم.
ولم يتأخر رد القضاء، إذ أصدرت المحكمة الإدارية العليا أحكامًا واسعة النطاق بإلغاء نتائج عدد من الدوائر، في سابقة من حيث اتساع حجم الإلغاءات وتأثيرها. هذا التدخل القضائي أربك حسابات المرشحين والأحزاب، وفتح الباب أمام إعادة تشكيل خريطة التحالفات، بل وأعاد بعض الدوائر إلى نقطة الصفر.
وفي خلفية هذا المشهد، بدا أن التجاذبات داخل بعض الأحزاب السياسية نفسها لم تكن أقل تأثيرًا. فبعض الكيانات الحزبية عانت خلال الانتخابات من تنافس داخلي بين تيارات متعارضة بشأن المرشحين المدعومين، في ظل تقديرات مختلفة حول التوجهات الرسمية أو شبه الرسمية. هذا التباين الداخلي زاد من ضبابية المشهد، وأظهر أن الأزمة لا تتعلق فقط بالمؤسسات الرسمية، بل تمتد أيضًا إلى داخل البُنى الحزبية.
ومع توسع القرارات القضائية واتساع دائرة الإلغاء، ازدادت حِدة النقاش الدستوري، فبينما رأى بعض القانونيين أن الرئيس لم يتجاوز اختصاصاته وأن القرار النهائي بيد الهيئة الوطنية للانتخابات، حذّر آخرون من أن استمرار الإلغاءات وتأخّر الحسم قد يدفع البلاد نحو ثلاثة مسارات محتملة: تأجيل استكمال العملية الانتخابية، أو الدخول في نقاش حول شرعية البرلمان إذا تواصل الجدل حول نتائجه.
ورغم ثقل هذه التعقيدات، برز مؤشر أخطر يتمثل في تراجع الإقبال الشعبي. فقد شهدت مرحلة إعادة الانتخابات انخفاضًا واضحًا في نسب المشاركة، وهو ما يعكس حالة من الإحباط وفقدان الثقة في جدوى المسار الانتخابي. وإذا استمر هذا العزوف، فقد يجد البرلمان المقبل نفسه مُثقلًا بضعف شرعيته الشعبية، ما يضع الدولة أمام تحدٍّ إضافي لترميم الثقة العامة.
في المحصلة، يبدو أن مستقبل ما بعد انتخابات مجلس النواب 2025 مفتوحًا على عدة احتمالات. فالتدخلات المؤسسية غير المعتادة، وملف الطعون الواسع، وظهور مراكز نفوذ داخل بعض الأجهزة والأحزاب، تؤشر جميعها إلى أن البلاد قد تكون أمام محطة حاسمة لإعادة ضبط قواعد اللعبة السياسية. وقد يشمل ذلك إعادة انتخابات في عدد من الدوائر، أو مراجعة قانون الانتخاب، وربما ترتيبات سياسية جديدة تعيد توزيع الأدوار داخل المشهد.
ومع ذلك، سيظل العنصر الحاسم هو استعادة ثقة المواطن. فمهما اكتملت الإجراءات القانونية والإدارية، لا يمكن لأي عملية انتخابية أن تكتسب قوتها دون سند شعبي واضح. وهنا تتحدد التحديات الحقيقية: إعادة بناء الثقة، تثبيت شرعية المؤسسات، وضمان أن تكون العملية السياسية قادرة على استيعاب الجمهور قبل أن تطلب منه المشاركة.
--------------------------------
بقلم: إبراهيم خالد






