18 - 12 - 2025

تجليات الوجودِ في مِحرَابِ محَمد صَبري بسطاوى

تجليات الوجودِ في مِحرَابِ محَمد صَبري بسطاوى

أستعير مقدمة كتبتها عن الفنان منذ فترة: "التعاويذ التي تتمتم بها لن تخيف اللون... سأرسم لك ثورا يصارع كل أشباحك، فلا تتحدى حروف الكلام. الحكايات ملكي، وأنا صانع التاريخ؛ فحاول فك الرموز واتبع غرائزك الأولى كي تستطيع القراءة."

بهذه النبرةِ الواثقة التي تعلن سيادةَ الفنان على مادته وتاريخه، يبدأُ محمد صبرى رحلةَ الغوصِ في اللاوعي الجمعى والذاتى معا. إنه يدعو المتلقى إلى فتح النوافذ التى أغلقتها رياح الانغلاقِ، داعيا إياه لتتبع خطوط وألوان جسد لوحاته ومنحوتاتِه التي هى ليست سوى ممرات إلى الغواياتِ، والخيالاتِ، والفتوحاتِ، والتواريخِ القديمةِ. الفن هنا فعل كشف وجودى؛ إذ إن البحث عن ملامحِ صبري في أعمالهِ هو بحث عن جزء من الروح الكامنة التى تضىء ابتساماتها الدافئة مساحات القماش، وبناءاتهِ النحِتية.

 فى مقابلِ حيرةِ الفنانينَ الذين يتخبطونَ في متاهاتِ اختيارِ رموزهم التشكيليةِ، يقف محمد صبرى كنموذجٍ للفنانِ الذي شكل عالمه منذُ البدايةِ بيقينٍ مستمد من وعى متراكم وثقافة عامة نافذة. لم تكن رموزه وليدة مصادفة عابرة، بل نتيجةَ اشتباك فكرى ووجدانى مع الحياة الثقافية. هذا الاستقرار الرمزى على ملامح عامة للوحاته ومنحوتاته ليس جمودا، بل هو أصالة ووعى؛ إذ إن أي تحول مستقبلي لن يكونَ ارتدادا، بل إضافةَ خبرة ووعى، في صيرورة تطورية تبتعد عن التقليدِ وتقترب من التفرد المنضبط.

  يعلى محمد صبري في تجربتهِ من شأن الروح بوصفها المحرك الأساسي للعمل الفنى، منحازا إلى الغريزة الفائضة على حساب التاريخ المَوثَّق. وفي هذا الفضاء الروحى، يتجلى الثور كأيقونة مركزية، ليس رمزا لحيوان، بل تجسيدا لمفهومِ الطاقة الكونية المتفجرة التي توحى بالهيجانِ، والوثْب، والسطوعِ، والنهوضِ المفزع، والثورة.

إن الثور في لوحاته يتجاوز الواقعَ إلى الحضورِ الأسطورى والميتافيزيقى. فمنذُ رسومات كهوفِ لاسكاوكس مرورا بـ "الثورِ السماوى" البابلى وصولا إلى تحولات الإله زيوسَ لاختطافِ أوروبا؛ كل هذهِ الحكايات هيَ طبقات رسوبية تثرى دلالةَ الثور لديه. إن السؤال هنا لا يتعلق بمدى استفادةِ صبري - أو بيكاسو قبله - من حكايات حمل الأرض على ظهر ثور أو رمزيةِ الفحولةِ الشعبيةِ، بل يتعلق بكيفيةِ تسرب هذا الحضور الطاغى والقوةِ الكامنةِ إلى دماغِ الفنانِ، ليصيره قويا وضخما وموثِّرا في كل مكون من مكوناتِ اللوحةِ.

 إن الثورَ لدى محمد صبري ليسَ موضوعًا للتقليدِ، بل بؤرةً لحواريةٍ مستمرةٍ مع الوجودِ الإنسانى. لقد أتاح الفنان لنفسهِ حق التحريفِ وإدخالِ وجهة النظر الخاصة على الشكلِ، محققا بذلك رؤيتَه الذاتيةَ التي لا تخضع لسطوةِ الواقعِ المجردِ.

هذه الحالة المتعمدة التى يعيشها الفنان مع مفرداتهِ التشكيليةِ تلخص رسائل جمالية وفلسفية عميقة.

 تتجلى أعمال الفنان محمد صبرى بسطاوى كـبؤرة تأمل في الذاكرة الجمعية والمحلية، فهو لا يكتفي بنقل الواقع، بل يخضعه لعملية تجريد وجداني تهدف إلى استخلاص جوهر المكان وروح الإنسان فيه.

يغوص بسطاوى في نواة البيئة المصرية، خاصة القروية أو الشعبية، لكنه لا يقدمها كـبانوراما وثائقية، بل كـشواهد زمنية مكدسة. أعماله تحول المبانى والوجوه إلى أرشيف حى ينادى بالانتماء، حيث تبدو الخطوط وكأنها مرسومة بـندوب التاريخ وأفراح العيش اليومى.

 هناك تباين فلسفى في معالجة المادة. يستخدم تقنيات تمنح اللوحة ثقلا ماديا وعمقا طبقيا خاصة في التظليل والتشكيلات القاسية، لكن هذا الثقل يهدف إلى إبراز خفة الروح الإنسانية التي تسكن هذه الأماكن، مما يجعله يقدم رؤية جدلية بين صمود البيئة وهشاشة الحياة.

 يبتعد بسطاوي عن الألوان الزاهية والمباشرة فى أغلب أعماله، مفضلا تدرجات ترابية ودافئة، مما يعكس انفعالا هادئا وعميقا. الألوان لديه ليست مجرد صبغات، بل هي تعبير عن الحالة الوجودية للشخصية أو المكان؛ تشى بالتعب، والأمل، والبساطة المطلقة. وغالبا ما تخلو أعماله من الصخب المفرط. الشخصيات إن وجدت، فهي في حالة تأمل أو صمت داخلى، مما يفتح الباب أمام المتلقى للمشاركة في السرد البصرى. إنه يدعو إلى فهم القصص التى لا تروى بالكلمات، بل بلغة الظل والخطوط المتعرجة.

 لقد قامَ صبرى بِفعلٍ جوهرى؛ إذ "فتحَ النوافذ"، تاركا للمشاهدِ حريةَ الرؤية والخيال في رحاب الرمزيةِ المتحققةِ.

وفي النحتِ يمارس صبرى تداخلَ الأزمانِ والحضاراتِ؛ فتأثره بالمنحوتات الآشورية يمتزج بـالطابع النوبى ويزين بـ مَنمنمات فارسية.

هذا المزج المعقد بينَ الخيال والواقع، المشوب بـعشوائية مقصودة تكسر النظام وتؤسس لـخصوصية التجديد، هوَ ما يحول خوار الثور من مجرد صوت إلى زلزلة وجودية تعيد تعريف القوة والجمال في مرآة الفن المعاصر.

كما يتميز النحت لديه بالبحث عن جوهر الشكل، حيث تبدو الأشكال مثقلة أو مضغوطة، كما لو كانت تعبر عن ثقل الحياة اليومية أو عبء التاريخ الذي تحمله الشخصيات المحلية (المرأة الريفية، الفلاح).

والفراغ المحيط بالكتلة ليس فراغا عدميا، بل هو جزء من التكوين. الفراغات بين الأطراف أو حول الرأس تخدم فكرة العزلة الهادئة أو الانطواء التأملى الذي يميز شخصياته.

في نحته على الأحجار، لا يحاول إخفاء طبيعة الخامة، بل يبرز خشونة الحجر وتعرجاته. هذه الخشونة ليست ضعفا، بل هى بيان صادق عن البيئة التى نشأت فيها الشخصية المنحوتة؛ فالمادة الخام هي مرآة للروح الخام والبسيطة، والملمس غالبا ما يكون غير مصقول ويحمل بصمات الأداة، مما يضفي على العمل بعدا تعبيريا مباشرا ويمنح المشاهد إحساسا بالقوة البدائية والحيوية الفطرية.

 وعلى الرغم من الثبات الظاهرى فى بعض شخصياته المكبلة بثقل حجرى مستطيلى غير منتظم ، يكمن في التكوين ديناميكية داخلية. قد تكون هذه الديناميكية نابعة من وضعية الجسد أو ميلان الرأس المعبر، مما يوحي بـصراع داخلي أو حالة وجدانية عميقة.

يتسم النحت لديه بـهيكل معماري متين، حيث تبنى الأشكال على أساس هندسي صلب، مما يربط بين صمود المنحوتة وصمود الشخصية المصرية. هذا التكوين يمنح العمل قدرة على تجاوز الزمن والاحتفاظ بشهادته البصرية.

النحت لدى بسطاوي، هو نحت اختزالى، صادق المادة، عميق التعبير، يستخدم الكتلة لتمثيل ثقل الوجود الإنساني في البيئة المحلية.

محمد صبري بسطاوي (لتمييزه عن الرائد محمد صبري) مدرس بقسم النحت كلية الفنون الجميلة، جامعة الإسكندرية. شارك في مجالات التصوير والنحت حصادا عددا من الجوائز في مسيرته الفنية، منها  شهادات تقدير من كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية والمنيا. جائزة النحت في صالون ناجي 2004.

الميدالية الذهبية في سمبوزيوم أسيوط لنحت الأحجار. الميدالية الذهبية في الاحتفال باليوبيل الذهبي لكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية. شهادات تقدير متعددة من كليات الفنون.

 نشرت صحيفة التايمز اللندنية صورا للوحته "القرية" عند مشاركته بها في مزاد Bonhams، مما يعد تقديرا كبيرا لفنه على المستوى العالمي.

ورغم أن شهرته الأوسع جاءت من خلال التصوير ، فإن وجود الأساس النحتي الذى جاء بقوة فى معرضه المقام حاليا بقاعة الفن بالزمالك يعكس فهما عميقًا للشكل والمادة.
-----------------------------
بقلم: د. سامى البلشى