- المخيف الآن لم يعد "رمي الناس ورا الشمس" وإنما إلقاؤهم في "مجاهل القمر المظلمة"!
- الكلام فقد معناه فعلًا.. الناس لايصدقون الآن معظم الكتاب والمفكرين.. مخطط التشويه والإتهام بالخيانة والعمالة كان له تأثيره الهائل!
- التغييرات الجديدة حولت غالبية الأقلام إلى مسخ، والصحف إلى ورق تواليت، والرأي إلى سطور منزوعة الدسم والبرلمان بغرفتيه إلى مجرد إسمين جديد فقط!
- المشكلة أننا حلمنا بتغيير جذري لهذه السياسات و"طلع نقبنا على شونة فاضية".. حلمنا بمصر العظمى من دون مقومات؟
*****
الكتابة على ورق يحترق.. هذا هو فعل الكلمة الآن!
حريق ودخان ولا شيء يتغير.. السلطة نجحت في تحييد الصدور الغاضبة منها، فلم تعد تزعجها الكتابات المتحدية لرغباتها الكاشفة عن أخطائها ومساوئها. النقد الضاري المرير عبر وسائط التواصل الاجتماعي - لأنه مستحيل في صحافة ورقية! - يبدو لها وكأنه موضة لابأس من ارتدائها.. في بعض الأحيان يمس الرداء شيئا ما تعتبر أنه لا يجوز المساس به، هنا وهنا فقط تتحول من الحياد إلى التكشير عن الأنياب!
التحييد القسري لمشاعر الغاضبين هو الأصل، لم يعد يجدي معه شيء، فلا بث مباشر "نافع"، ولا بود كاست على يوتيوب - لطرح مشكلات خطيرة، أو اتهامات جسيمة، أو قضايا عامة - "نافع"! السلطة حيدت الغضب بكل أساليب التعبير عنه ولم تعد تهتم، حتى سيوف وسنج بعض شباب هذه الأيام، الذين يرعبون الناس في الشوارع في غيبة الأمن - الجنائي لا السياسي - لم تفلح في تحفيز المسئولين للتصدي لما يجري في الطريق العام!
أفقدت السلطة كل شيء معناه.. حتى الكلام! وعلى الرغم من أن بعض الكلمات ماتزال حية ونابضة وموغلة في الشرف والمقاومة، إلا أنها - على ندرتها - تذهب بقائليها إلى ما أسميه "مجاهل القمر المظلمة"! المخيف لم يعد "رمي الناس ورا الشمس"، وإنما إلقاؤهم في مجاهل القمر المظلمة هذه هو الأكثر إرعابًا.. حيث تنعدم الحياة كليًا.. في هذه المجاهل الناس لا شيء.. منعدمين. يبتلعون الزلط أو الموس كما يقول الكويتيون أو يتجرعون السم - على طريقة الخميني - ويمارسون التّقِيّة - الظاهر غير الباطن - هلعًا ورعبًا من دخول هذه المجاهل المظلمة! تحايلات الكتاب والمثقفين والمبدعين للتعبير عن هذا الاختناق، باللجوء إلى التورية والإسقاط وإستخدام صياغات تحتمل أكثر من معني، كل هذا الأساليب لم يعد له تأثيرها الذي كان في سابق الأزمان.
الكلام فقد معناه فعلًا.. الناس لا يصدقون الآن معظم الكتاب والمفكرين.. مخطط التشويه والإتهام بالخيانة والعمالة (والأخوّنة وهي جزئية ملتبسة، بعضها يقينا صحيح بفعل ظهور الخلايا النائمة وأغلبها أصبح هراوة قانونية!) كان له تأثيره الهائل.. فلما أضيف إلى ذلك استخدام السلطة للمتسلقين من أرباع الموهوبين، والذين لا ينتجون فكرًا سوى النفاق والتطبيل، ومنحوهم الصدارة وجعلوهم محلًا دائمًا للحفاوة، ونثروا بين أيديهم كل المناصب المهمة والخطيرة، فأصبحوا من ذوي الثروة والسلطة والنفوذ، فإنهم فقدوا الثقة في الجميع وأدخلوهم قفص الاتهام!
ليس هذا فحسب، الأخطر من ذلك هو أن المفاهيم تغيرت، مثلما تغيرت ملامح البلد نفسها! كل شيء تغير حتى مفهوم "الوطن"! صار كلمة جوفاء ترددها الألسنة كما أي علكة (لبانة) يلوكها الناس بألسنتهم.. الروح المميزة للوطن مسخت، الضحكة الصافية تراجعت أمام الهم العام.. الهوية عادت لتطرح كمفاهيم مختلف عليها.. من نحن؟ مصريون أم فراعين؟ عربا أم أفارقة؟ مسلمون أم متنوعو الديانات؟! حتى قيمة العمل نفسها راحت في "الوبا".
الأسوأ من هذا أن الانتماء نفسه تغير، أحلام الشباب لم تعد مشروعة كما كنا نفهمها.. حلم الدفاع عن الأرض والعرض وشق الطريق إلى الشمس والإمساك بها من دون احتراق بنارها تبخر.. الحلم غير المشروع أصبح مشروعًا.. الفرار أو هو الهجرة إلى أرض أخرى.. بات الحلم بالمستقبل في الوطن الحقيقي وهمًا كبيرًا.
عندما يسمع الناس كلامًا ككلام المسئول عن الحكومة لابد أن يغير في طبيعتهم شيء من الداخل.. يرسم في عقولهم أخاديدًا من المرارة والألم! عندما يرهن رئيس الوزراء حياة الناس وأحلام بناء الإنسان إلى أجيال أخرى فهو ينزع الأمان والطمأنينة والراحة والسعادة من الأجيال الحالية، بكل شقائها وتعاستها وكدها وكدحها ويرهنها إلى أعوام مقبلة فهذه كارثة! حلم سعادة الإنسان وإعادة بنائه مؤجل إلى أزمنة أخرى، باليقين لن يكون موجودًا فيها. رئيس الوزراء مصطفى مدبولي يؤجل الأحلام إلى عام ٢٠٧٥! "ياترى من يعيش" هكذا يردد البسطاء.. كلما طحنتهم وعوده الغريبة كما طحنتهم سياساته الخطيرة!
كل الأشياء تغيرت، حتى حلم الأمن والأمان ضرب في مقتل. زمان كان انضباط الشارع له الأولوية، ويحاول رجال الأمن فيها أن يبلغوا مستويات عالية في تحقيقه، الآن لم يعد هذا الأمر كذلك.. الناس تضرب بعضها بالمطاوي والسيوف والسنج.. يقتل الأب أولاده - أو يبيعهم كما في رواية الكاتب يوسف القعيد "يحدث في مصر الآن" التي كانت نبوءة - وينحر علنا الشاب العاشق فتاة كان يتصورها ملكا له، ويعاقب شاب آخر رجلا بأشنع الوسائل، حيث يفصل رأسه عن جسده بالسيف ويطوف بها محتفلًا بين المارة.. وينتحر قاضي، أو يقتل قاضٍ زوجته ثم يقتل نفسه بعدها، وثالث يتهم بالاتجار في المخدرات ويتقاضى عشرين الف جنيه في النقلة الواحدة! الفتن الطائفية مازالت تترى وتتوالى.. الصدور الغاضبة علامة من العلامات الدالة على أن الدنيا تغيرت، كل الناس تتحدث بمرارة عن فشل الحكومة وعن ضيق آفاق المستقبل.
فلسفة تحقيق الأمن نفسها تغيرت. لا شيء يزعج رجال الأمن.. أغلب المعارضين في السجون.. فاسدهم وشريفهم، جاهلهم وعالمهم، متمولهم وعفيفهم.. الصحفيون وضعهم سيء جدا.. يلهثون وراء لقمة عيش، ولو كانت مغموسة في بحار الملح، وقابعة بين أنياب الأسود، وضعهم يصعب عالكافر، اللهم إلا بعض القابضين على الجمر، ممن أدركتهم حرفة الصحافة، فلم يسلكوا سبيلا ملتوية للوصول والتربح.
السلطة تعني الهراوة والزنزانة والقهر. لم يتغير شيء على هذا المسار.. بل ربما تحول إلى الأسوأ.. أما الأكثر سوءًا فهو طوفان التغيير الذي اجتاح البلد.. بعضه نلمسه كشيء إيجابي، مثل تحسين طرق المواصلات والسفر البعيدة.. الأنفاق التي تحت الأرض وتعتبر من المعجزات.. التواجد في قلب سيناء بعد أن كانت كامب ديفيد تكبلنا بقيودها الحديدية. المحاولات الحثيثة للتسليح الجيد في غالبيته، في مقابل سلبيات كثيرة توجه لقطاع الاقتصاد والنقل والتعليم والصحة.. وقطاع حقوق الإنسان. ولكن تغيير ملامح الوطن وهويته هو السؤال الأكثر إلحاحا اليوم.. "هيه دي مصر اللي نعرفها "؟ نقيم متحفًا للحضارة ومع هذا يجهل أبناؤنا معنى الحضارة وقيمتها؟ ننتخب غرفتي برلمان بقوانين أسوأ من كل القوانين السابقة سوءًا؟ البلد محتكر من مليارديرات ورجال أعمال؟ انعدام الرقابة الحقيقة على الميزانيات والسلع وما يمس حقوق وحياة الناس!! لا شيء يوقف طوفان التغيير الذي حدث في المجتمع على مدى سنوات مضت؟! أتساءل عن هذا العقل الجبار الذي نجح في هذا المسار.. من هو؟ هل هو فرد.. هل مجموعة أفراد؟ هل هو عمل جماعي؟ كيف أمكنهم أن يفرمتوا - أو يفرموا لا فرق - البلد بهذا الشكل؟ هل هم خبراء إلى هذا الحد؟ هل هم ضليعون في قواعد الفرمتة والفرم.. كما نجيب الريحاني وسليمان نجيب وأيهما ضليع أكثر في اللغة العربية! كيف سارت محاولاتهم في غيبة كل الرموز الشيطانيّة الضليعة في هذا في سنوات الحكم السابقة، والتي كان رموزها يضعون سيناريوهات عديدة يحبكون بها كل عملياتهم "سيئة السمعة" من القمع والتعذيب إلى القص واللصق للقوانين الموصومة بهذه الصفة؟!
أئمة الشياطين كانوا يقومون بتصميم وإخراج كل شيء بفن وابداع .. تزوير انتخابات: بسيطة.. هذا ممكن.. المسألة تبدأ من تظبيط قانون انتخابات فاسد، وتبديل صناديق تحت سمع وبصر الأمن.. إعلان نتائج مغايرة لما هو موقع عليه في الكشوف.. امتلاك عمائر وفيلات في لسان الوزراء.. عادي جدًا، فلدينا وزير الإسكان يمنح بسخاء! فساد ونهب؟ طبيعي إقرأوا قوائم ممتلكاتهم وثرواتهم، سترون واحدًا مثل حبيب العادلي الوزير السابق للداخلية، أو صفوت الشريف وغيرهما يمتلكون كمًا هائلا منها رغم أنهم موظفون عموميون يفترض أنهم يعيشون من مرتباتهم فقط! لم يقبعوا في السجون الفترة التي تليق بهم، أو يصادر القضاء ممتلكاتهم التى تحايلوا على الاحتفاظ بها؟
التغيير الجديد كان من نوع آخر.. هندسه مهندس مختلف.. استطاع أن يحول الأقلام إلى مسخ، والصحف إلى ورق تواليت، والرأي إلى قنبلة منزوعة الدسم، فلا هي لها قيمة إذا انفجرت ولا هي لها نفس المفعول إذا لم ينزع فتيلها؟ والبرلمان بغرفتيه إلى مجرد اسمين جديدين فقط! من هو هذا المهندس؟ أغلب رجال السادات ومبارك ذهبوا إلى غير رجعة، ولكن لايزال الناس يترحمون على أيام المعْلّمة والأفكار التي لاتصدر إلا عن شياطين لهم خبرة وكاريزما وضليعون في تخصصاتهم.. يحترمون القانون ويغتصبونه بالقانون!
المشكلة أننا حلمنا بتغيير جذري لهذه السياسات و"طلع نقبنا على شونة " (فاضية مش مليانة) حلمنا بمصر العظمى، ولكن من دون مقومات العظمة؟
إنها بالتأكيد أحلام غير مشروعة.. فالأحلام العظيمة لا تتجلي في عصر الجماهير الفقيرة!
------------------------------
بقلم: محمود الشربيني






