12 - 12 - 2025

بيغوم خالدة ضياء: رمز سامق للديمقراطية والتنمية والقيادة الوطنية في بنغلاديش الحديثة

بيغوم خالدة ضياء: رمز سامق للديمقراطية والتنمية والقيادة الوطنية في بنغلاديش الحديثة

في سجل السياسة في جنوب آسيا تلمع أسماء نادرة ظل إشعاعها ممتدا عبر الزمن، أسماء لم يقتصر حضورها على عصرها فحسب، بل تجاوزته لتشكل وعي الأجيال اللاحقة، وتهدي الدول بوصلة الاتجاه في المنعطفات الكبرى. ومن بين تلك القامات السامقة تبرز بيغوم خالدة ضياء، التي غدت رمزا أصيلا لاستعادة الديمقراطية في بنغلاديش، وبانية لنهضتها، وحارسة لقيمها القومية وهويتها الوطنية.

خرجت من محنة شخصية قاسية، وانتزعت من بين دموع الفقد إرادة صلبة مكنتها من اعتلاء أرفع المناصب التنفيذية في الدولة، ثم مضت تقود البلاد مرارا بحكمة راسخة ورؤية وطنية لا تساوم. ومع الأيام، ومع ما بذلته من تضحيات ووفاء، أحاطتها قلوب الملايين بمحبة الأم وودها، حتى غدت في الوجدان الشعبي أما حانية، وفي صفحات التاريخ رائدة من رواد بناء بنغلاديش الحديثة ورسم ملامح نهضتها.

من لوعة الفقد إلى صلابة القيادة: ميلاد صعود استثنائي

كان عام 1981 عاما ملبدا بالقلق، تتقاذف فيه بنغلاديش أمواج الاضطراب السياسي. وفي خضم هذا المشهد القاتم دوى نبأ اغتيال الرئيس الشهيد ضياء الرحمن، فخنق الصمت المذعور أصوات البلاد، وخيم الحزن على كل بيت. وفي تلك اللحظات التي كانت الدموع فيها أبلغ من الكلمات، ارتفع إلى الواجهة اسم امرأة شابة، هادئة القسمات، رقيقة الحضور بيغوم خالدة ضياء، اسم لم يكن أحد يتصور أنه سيغدو بعد أعوام قليلة رمزا للقوة السياسية، وركنا من أركان القيادة في بنغلاديش.

كان الحزب الوطني البنغلاديشي يعيش حينئذ مفترق طرق، وقد أرهقته الضغوط والتحديات. غير أن كوادره رأوا في هذه السيدة المكلومة إرادة من فولاذ، وهدوءا لا يتزعزع، وقدرة فطرية على جمع الناس حول كلمة سواء. لم تدفعها شهوة السلطة إلى الميدان، ولم تجذبها بهرجة السياسة، بل ساقتها إليه مسؤولية شعرت أنها دين عليها للوطن، فكان إخلاصها هذا هو الجسر الذي عبرت به إلى قلوب الناس.

وهكذا بدأ صعودها لا كحدث سياسي فحسب، بل كملحمة إنسانية تنسج من الحزن قوة، ومن الفقد عزيمة، ومن امرأة هادئة رمزا لقيادة تبني وتستنهض وتلهم.

هيأت نفسها سريعا لمواجهة حقائق السياسة بصرامتها وتقلباتها، فدخلت ميدانها بقلب ثابت وعقل محكم. ولقد كان اعتراضها الصارخ على الحكم العسكري، وحسن تدبيرها في جمع الصفوف وتوحيد الإرادة، ونداؤها الشجاع لاسترداد الديمقراطية كل ذلك كفيلا بأن يرفع قدرها في أعين الأمة، وأن يجعلها صوتا تستجيب له القلوب قبل الآذان. وفي انتفاضة عام 1990 تجلت قيادتها في أبهى صورها، إذ منحت آمال الناس نبضا جديدا، وألبست رجاءهم ثوب القوة والعزم.

مهندسة نهضة الديمقراطية واستعادتها:

إن الدور الذي أدته بيغوم خالدة ضياء في المسار الديمقراطي لبنغلاديش سيظل محفورا في صميم الذاكرة الوطنية. فقد كانت في طليعة من تصدوا للطغيان، تشعل جذوة الوعي في صدور الجماهير، وتستنفر الهمم لبناء جبهة موحدة في وجه الاستبداد. كانت، في كل محطة، تتقدم الصفوف بثبات نادر، وكأن القدر أعارها صوتا لا يلين وإرادة لا تهزم.

وبقيادتها الراسخة تحول النضال الشعبي من احتجاجات متناثرة إلى حركة قومية كاسحة زعزعت أركان الحكم العسكري، حتى انفتح الباب أمام عودة التعددية السياسية. ذلك النصر لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان ثمرة شجاعتها وإيمانها، ودليلا على أن القيادة الصادقة قادرة على تغيير وجه التاريخ. وهكذا استقرت صورتها في ذاكرة الوطن باعتبارها إحدى أعظم مهندسات استعادة الديمقراطية في بنغلاديش.

أول رئيسة وزراء منتخبة في بنغلاديش: ميلاد عهد جديد في سفر القيادة:

حين اعتلت بيغوم خالدة ضياء سدة الحكم عام 1991 كأول امرأة تنتخب لرئاسة الوزراء في تاريخ بنغلاديش، لم يكن ذلك مجرد انتقال للسلطة، بل كان افتتاحا لصفحة جديدة في سجل الريادة النسائية في جنوب آسيا. لقد حملت تلك اللحظة معنى يتجاوز حدود الوطن، إذ كشفت للعالم أن القيادة ليست حكرا على جنس دون آخر، وأن يد المرأة يمكن أن تمسك دفة الدولة بثبات لا يقل صلابة عن الرجال، بل تفوقه حكمة ورشدا في كثير من المواضع.

كان عهدها الأول زمن إعادة الروح إلى المؤسسات الديمقراطية التي أنهكها الاضطراب السياسي، فعملت على ترميم بنائها، وتحديث سياسات الدولة، وتهيئة الاقتصاد للانفتاح على العالم بثقة ورؤية واعية. وفي ظل قيادتها أعيد إحياء النظام البرلماني، وتقوى عود اللجنة الانتخابية المستقلة، واتسعت فسحة الإعلام، فيما شهدت الصناعة والتجارة إصلاحات متتابعة أعادت للاقتصاد حيويته وقدرته على منافسة الأسواق العالمية.

وحين جددت الأمة ثقتها بها في انتخابات 2001، بدا وكأن مشروعها التنموي اتخذ جناحين جديدين، فاندفعت بنغلاديش نحو نهضة شاملة. تبدلت ملامح البنية التحتية تبديلا جذريا، وارتفع صوت تعليم الفتيات حتى غدا ثورة اجتماعية، وتوهجت القرى بالكهربة المتسارعة، وتمددت شبكات المواصلات كالشرايين في جسد الوطن. أما سياساتها الجاذبة للاستثمار الأجنبي فقد لقيت صدى واسعا في الأوساط الدولية، وجعلت من قيادتها نموذجا تشاد به المحافل وتستشهد به التقارير.

إن ما أنجزته بيغوم خالدة ضياء في سنوات حكمها لم يكن مجرد أرقام تنموية، بل كان تأسيسا لعصر جديد أدرك فيه العالم أن المرأة قادرة على أن تكون نبض الدولة وعقلها وضميرها في آن واحد.

إسهاماتها في التنمية والاقتصاد ومسيرة النهوض الاجتماعي

لم تكن سنوات حكم بيغوم خالدة ضياء زمنا عابرا في تاريخ بنغلاديش، بل كانت مرحلة ازدهرت فيها ملامح النهضة، وتجلت فيها ثمرة القيادة الواعية. فقد شهدت البلاد في عهدها تنمية واضحة المعالم، ثابتة الخطى، تحمل في جوهرها رؤية بعيدة المدى تعلي من شأن الإنسان وتمنح الدولة قدرة على التقدم بثقة ورصانة.

فيضان من مشاريع البنية التحتية:

أطلقت مشاريع تنموية كبرى شملت الطرق والجسور والعبارات، وأنشأت مدارس ومستشفيات، ومدت خطوط الكهرباء في ربوع البلاد كأنها شرايين حياة جديدة. مناطق نائية لم تعرف نور الكهرباء من قبل، استضاءت في عهدها لأول مرة. وبهذا الانتشار العمراني والحضاري، دبت الحيوية في الاقتصاد الريفي، وانتعشت المشروعات الصغيرة، وانطلق الناس نحو آفاق جديدة من العمل والإنتاج.

ثورة في تعليم الفتيات: انتقال من الهامش إلى صدارة المشهد

آمنت خالدة ضياء بأن نهضة الأمة تبدأ من تعليم بناتها، فكانت الرائدة التي دشنت أول برنامج وطني واسع للمنح الدراسية المخصصة للفتيات مبادرة وصفت بأنها محطة مفصلية في تاريخ التعليم النسائي بجنوب آسيا. وما هي إلا سنوات حتى تضاعفت أعداد الفتيات في المدارس، وارتفعت مؤشرات محو أمية المرأة، وغدت بنغلاديش نموذجا يشاد به في المنتديات الدولية.

صعود اقتصادي واتساع في آفاق العمل:

دفعت بسياسات جريئة لدعم قطاع الصادرات، لا سيما صناعة الملابس الجاهزة، فازدادت قدرة البلاد على المنافسة في الأسواق العالمية. ومع انفتاحها الدبلوماسي على العالم، تدفقت الاستثمارات الأجنبية، مما رفع من مستوى الإنتاج الوطني وخلق فرص عمل واسعة، فكان عهدها مرحلة نمو اقتصادي مشهود.

الحكم الرشيد: انضباط مالي واستقرار إداري

امتاز عهدها بدرجة عالية من الانضباط والاتزان. فقد شددت على الرقابة المالية، وواجهت مظاهر الفساد بحزم، وغرست في الإدارة العامة ثقافة المساءلة والمسؤولية. وجاء هذا المناخ من الاستقرار ليعكس صورة قيادة توازن بين الصرامة والعدالة، وبين البناء والإصلاح.

رمز للشعبية: أم في وجدان الأمة

لم تكن بيغوم خالدة ضياء مجرد رئيسة للوزراء، بل كانت وجها إنسانيا يلوذ به الناس، وملاذا لآمالهم ومشاعرهم. فقد رأتها نساء الريف أختا كبرى، وأما رؤوما، لأنهن أيقن أن هذه المرأة تحمل في قلبها اهتماما خاصا بتعليم بناتهن، وبحماية حقوق النساء وصون كرامتهن. وكانت ملامحها تجمع بين اللطف والصرامة، بين الصدق الذي يأسر القلوب، والعزم الهادئ الذي يزرع الطمأنينة في النفوس.

ولذلك لم ينظر الشعب إليها بوصفها قائدة سياسية فحسب، بل بوصفها وصية على مستقبلهم، امرأة تتشعب في قلبها هموم الوطن، وتقلقها مصائر أبنائه كما يقلق الأم مصير أولادها.

ملحمة الصبر والتضحية والثبات:

لم تخل مسيرتها من العواصف، بل كانت مليئة بالابتلاءات والتحديات، من ضغوط سياسية إلى ظروف قاسية ومحن متتابعة. ومع ذلك، لم تر يوما تهاب السقوط أو تتراجع أمام الشدائد. فإذا اهتزت الديمقراطية، كانت هي عمودها الفقري،  وإذا تزعزع الحزب، كانت هي اليد التي تعيد لحمته، وحتى حين أثقل المرض خطواتها، بقيت واقفة بقامتها العالية، لا ينال الوهن من صدق عزيمتها.

لقد امتزجت في حياتها السياسية قيم نادرة: تضحية لا حساب لها، وأخلاق تقاوم زيف السياسة، وكرامة وطنية لا تشترى، وحب للوطن لا تطفئه عواصف الدهر.

ولم يكن غريبا أن ترتفع الأصوات في المنظمات الحقوقية الدولية، وفي الأوساط القانونية العالمية، وكذلك بين أبناء بنغلاديش في المهجر، مطالبة بإنصافها ورعايتها وضمان حقوقها الإنسانية. وكان هذا الالتفاف العالمي حولها شاهدا على مكانتها الرفيعة، ودليلا على أن تأثيرها تجاوز حدود الوطن ليبلغ ضمائر العالم.

الخاتمة: اسم يلمع في سجل الخلود

ستبقى بيغوم خالدة ضياء اسما لا يغيب عن ذاكرة بنغلاديش الحديثة، اسما يضيء صفحات التاريخ مهما تراكم عليها غبار السنين. فهي لم تدر شؤون الدولة فحسب، بل كشفت للبشرية كيف تستطيع امرأة واحدة، حين تمتلك العزم والبصيرة، أن تدفع أمة بأكملها نحو العلو والرقي. لقد أكدت أن النضال من أجل الديمقراطية ليس إلا وجها آخر للنضال من أجل كرامة الإنسان وحقوقه، وأن حب الوطن يتجلى في المواقف الثابتة، وفي الرحمة التي تلازم الحزم، وفي البناء الذي يرتكز على الإخلاص.

إن شجاعتها وتضحياتها وشعبيتها وحكمتها التي تليق برفعة الدول، قد أرست لبنغلاديش دروبا منيرة، وطبعت خارطة السياسة في جنوب آسيا ببصمة لا تمحى. وقد غدت سيرتها مرجعا لمن يريد أن يفهم كيف تتكون الزعامة، وكيف يكتب المجد الوطني بأفعال لا بالأقوال.

ورغم ابتعادها عن صخب الساحة السياسية اليوم، فإن نور رؤيتها لا يزال يتوهج في قلوب الطامحين إلى الديمقراطية، يهديهم كالبوصلة، ويمنحهم قوة الأمل. وسيخلدها التاريخ في صفحاته بوصفها:

حارسة الديمقراطية،

ورائدة القيادة النسوية،

وحاملة مشعل الروح القومية،

وقبل ذلك وبعده

القائدة التي أحبها الناس واحتضنوها بقلوبهم.
--------------------------------
بقلم: أحمد شوقي عفيفي