18 - 12 - 2025

دار العربي.. خمسون عاماً من صناعة الوعي وبناء الجسور مع العالم

دار العربي.. خمسون عاماً من صناعة الوعي وبناء الجسور مع العالم

احتفلت دار العربي للنشر والتوزيع بمرور نصف قرن على انطلاقها في عام 1975، حيث كانت الحركة الثقافية على مشارف مرحلة شديدة التعقيد في تاريخ الثقافة المصرية والعربية، وللأسف لم تقرأ جيدا حتى الآن، المهم أن دار العربي للنشر والتوزيع ولدت كمشروع ثقافي يتجاوز حدود النشر الرسمي والتقليدي، ويحمل في جوهره إيماناً عميقاً بأن المعرفة ليست ترفاً، بل ضرورة تُبنى بها الأمم وتنهض بها العقول وما أحوج مصر وقتئذ لذلك. كان وراء هذا المشروع رجل من طراز خاص: إسماعيل عبد الحكم بكر، الذي جمع بين خبرة الصحافة والعمل الثقافي، وبين شغف التأسيس لفكرة جديدة في المشهد العربي: دار نشر لا تلاحق السوق، بل تصنعه؛ وتكسر هيمنة التوجهات الرسمية ولا تتبع الموضات الفكرية، بل تقدّم للقارئ ما يحتاجه ليبصر المتغيرات المحيطة بعالمه العربي بعين مختلفة.

انبثقت رؤية إسماعيل عبد الحكم بكر من سنوات خبرة اكتسبها في مؤسسة الأهرام وفي تجارب نشر عربية مؤثرة مثل دار الفتى العربي في بيروت. هناك، أدرك أن النشر ليس تجارة ورقية، بل مشروع تنويري يُبنى على الدقة، والحرص على النوع، والتنوّع الثقافي. وعندما عاد إلى القاهرة، حمل معه حلماً واضح المعالم: تأسيس دار نشر مصرية تضع المعرفة في صدارة اهتماماتها، وتفتح أبواباً واسعة أمام الفكر والإبداع والترجمة.

ومنذ اللحظة الأولى، صاغ المؤسس هوية  العربي على قاعدة صلبة انطلاقا من تكويني الثقافي والفكري: احترام القارئ. لذلك حرص على تقديم كتب رصينة في مجالات السياسة، التاريخ، الإعلام، المكتبات، الفنون، العمارة، والفكر، من دون أن يتورط في أي نزعة تجارية ضيقة أو انحياز ثقافي محدود.

بعد رحيل المؤسس، انتقلت الشعلة إلى أبنائه شريف ورانيا بكر؛ شعلة لم تخفت، بل ازدادت اتقاداً. فقد أدرك الاثنان، وهذا ما أكداه في كلمتهما في الاحتفال الذي أقاماه، أن إرث والدهما ليس صندوقاً من الكتب، بل مشروعا ثقافيا متجددا يحتاج إلى عين جديدة ووعي مختلف، دون أن يفارق أصالته.

وطبقا للمعلومات المتوفرة لي يتولى شريف اليوم الإدارة العامة للدار، ويقود سياستها التحريرية، ويشكّل وجهها في المحافل الدولية: معارض الكتب، مراكز حقوق النشر، الاجتماعات الثقافية، والحوارات حول مستقبل الكتاب. يتمتع شريف بقدرة عالية على قراءة المشهد العالمي، وعلى فهم ما يجب أن يصل للقارئ العربي من تجارب الأدب العالمي، ومدى أهمية أن يتعرّف القارئ على ثقافات لم يكن يطرق بابها من قبل.

أما رانيا فتعمل بصمت فعال خلف كواليس الدار، تقود العمليات اليومية، وتتابع مراحل التحرير، الطباعة، التوزيع، والعلاقات مع المترجمين والكُتاب. هي الركيزة التي يستند إليها النظام العملي للدار، والضمانة لاستمرار الجودة التي أرساها المؤسس، لكن هذا لا يعني أنها لا تشارك في المنتديات والمؤتمرات الثقافية التي تتناول قضايا النشر في العالم العربي. 

بفضل هذا التوازن بين  بين شريف ورانيا، بين الرؤية والتنفيذ، استطاعت العربي للنشر والتوزيع أن تخرج من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الانطلاق الثاني، حيث لم تعد مجرد دار مصرية، بل منصة عربية لها حضور دولي معتبر.

وفي إطار احتفالها بخمسين عامًا من العمل الثقافي، لابد من الاشارة إلى مشروع الترجمة الذي تتبناه دار العربي بوصفه أحد أهم أعمدتها الفكرية وأكثرها تمييزًا في المشهد العربي. فمنذ عام 2010 اتجهت الدار إلى بناء مكتبة عالمية داخل اللغة العربية، عبر ترجمة مئات الكتب. لقد اختارت الدار أن تفتح نافذة واسعة على آداب وثقافات قد لا يحظى القارئ العربي بفرصة الوصول إليها عادةً، فامتد نشاطها إلى لغات أوروبية وأميركية وآسيوية وأفريقية وأميركية لاتينية، بما يعكس رؤية واعية تتجاوز منطق اللغات الكبرى إلى تنوّع العالم نفسه. فقدّمت أصواتًا إبداعية وفكرية جديدة وتجارب إنسانية غير مألوفة، مع التزام ملحوظ بالجودة التحريرية واحترام حقوق النشر، ما رسّخ مكانة الدار كمشروع ثقافي يتجاوز نشر الكتب إلى صناعة معرفة عالمية صادقة.

وفي المقابل، لا تتوقف الدار عن تطوير المسار العكسي: تصدير الأدب المصري والعربي إلى اللغات الأجنبية. ورغم أن حركة الترجمة من العربية إلى الخارج تواجه تحديات سوقية عالمية، فإن العربي تبدي رغبة واضحة في توسيع حضور الأدب العربي في المشهد الدولي، وقد نجاح رانيا أخيرا في بيع حقوق أعمال لكتاب عرب لدور نشر عالمية، ومن بين الكتاب فيصل السويد 11 لغة، والكاتبة مي خالد 9 لغات والكاتب عمرو عافيه 4 لغات.

ومن جانب آخر تحرص الدار على المشاركة في معارض عالمية كبرى والتواصل مع وكالات أدبية وهيئات ثقافية تتيح وصول الكتاب العربي إلى قرّاء جدد. وفي هذا الإطار، تتعامل الدار مع الترجمة كفعل ثقافي متبادل، يساهم في تصحيح الصور النمطية عن المنطقة العربية ويقدّم سرديات مغايرة تعكس ثراء التجربة العربية وتنوّعها. وهكذا، تجمع العربي بين حركة واسعة للترجمة إلى العربية، وطموح متصاعد لترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم، في رؤية تجعلها فاعلًا مؤثرًا في حركة الثقافة العابرة للحدود.

وهكذا في عهد شريف ورانيا، اتسعت آفاق الدار لتشمل عشرات الدول والثقافات؛ إذ قدّمت للقارئ العربي إبداعا مترجماً من أيسلندا إلى أمريكا اللاتينية، ومن شرق آسيا إلى أوروبا الشرقية، ومن أفريقيا إلى أميركا الشمالية. وجاءت سلسلة "Different Books" لتجسد هذا التوجه الدؤوب نحو كسر النمط السائد وتقديم تجارب جديدة ومغايرة تماماً لما تعارف عليه القارئ العربي.

هذا التنوع لم يكن مجرد اختلاف، بل مشروعاً ثقافياً كاملاً: إتاحة للأدب الإنساني في أوسع معانيه، وتعميق لفكرة أن الإنسان واحد مهما تنوعت لغاته وثقافاته. لم تتوقف الدار عند ذلك من الأشكال التقليدية للنشر، بل واكبت التحولات الرقمية وفتحت أبواباً للنشر الإلكتروني والتوزيع الرقمي، مع الحفاظ على قيمة الكتاب الورقي. كذلك سعت الدار إلى تحديث علاقتها بالمؤلفين والمترجمين، وإرساء معايير احترافية تقوم على احترام الملكية الفكرية والجودة التحريرية.

فتحية رحمة على روح إسماعيل عبد الحكم بكر الأب المؤسس وتحية تقدير لابنيه شريف ورانيا لتعميقهما رؤيته وتوسيعهما الذي فتح أفقاً عربيا ودوليا معاصرًا للثقافة المصرية والعربية.
-----------------------------
تقرير: محمد الحمامصي