10 - 12 - 2025

من الذي «يتحرَّر» أولاً من العلاقات المرهِقة: القوي أم الضعيف؟

من الذي «يتحرَّر» أولاً من العلاقات المرهِقة: القوي أم الضعيف؟

سؤال يبدو بسيطًا لكنه يفضي إلى مفترق طرق إنساني، ويظل السؤال معلّقًا في فضاء التجارب الإنسانية كأنه لا يريد جوابًا واحدًا: من الذي يقدر على مغادرة العلاقات المرهقة نفسيًا وعضويًا؟ هل هو القوي الذي امتلك شجاعة الخروج، أم الضعيف الذي عجز عن الاحتمال؟ أم أن الإنسان، بكل ما فيه من هشاشة وصلابة، لا يمكن قياسه بهذه المعادلات الضيقة؟ فبين من يعدّ البقاء بطولة، ومن يرى الرحيل نجاة، تبقى الحقيقة أكثر تعقيدًا مما يسمح به تصنيف سريع.

الناس في هذا يختلفون كما تختلف طبائع الألم. منهم من يلتصق بالعلاقة ظنًا أن الصبر فضيلة مطلقة، وأن التحمل بابٌ للارتقاء الروحي، وأن كل شرّ يمكن تحويله إلى درس، وربما إبداع، ومنهم من يدرك أن الصبر حين يبتلع الروح لا يعود صبرًا، وأن التحمل حين يُهدر الصحة لا يُسمّى قوة بل استنزافًا.

ولعلّ الأبحاث النفسية التي تناولت أثر التوتر العاطفي تؤكد أن العلاقات المنهكة تغيّر كيمياء الجسد قبل أن تغيّر ملامح الروح؛ فارتفاع هرمونات التوتر، واضطراب النوم، وتشوش التركيز علامات ليست عابرة كما تقولها أبحاث دايفيز وإيمري وHeatherington، أستاذ علم النفس الكندية و التي ترى أن العلاقة المؤذية لا تندمل آثارها بسهولة.

ويشتدّ السؤال حين يدخل الأطفال في الصورة، إذ يصبحون الذريعة الكبرى للبقاء وأحيانًا الضحايا الصامتين.

كثيرون يظنون أن البيت يجب أن يبقى قائمًا مهما تشققت جدرانه، وأن الانفصال عاصفة تهزّ عالم الصغار، غير أن الدراسات الاجتماعية تشير بوضوح إلى أن الأطفال ينهارون من صراع والديهم أكثر مما ينهارون من انفصال هادئ ومدروس، بيت يملؤه الشجار الصامت، والعداء المتخفي، أو الصمت البارد قد يترك ندوبًا أعمق من قرار انفصال يحفظ لهم بيئة مستقرة مع أحد الوالدين، فالاستقرار العاطفي أهم من الشكل الخارجي، والطمأنينة أعمق من الصورة.

وإذا كان هذا صحيحًا في الزواج، فهو لا يقل صدقًا في الخطوبة أو الارتباط ما قبل الزواج. فالعلاقة التي لم تُستكمل رسميًا ليست بالضرورة أقل أثرًا أو أقل وجعًا؛ بل إن كثيرًا من الشباب يدخلون مرحلة ما قبل الزواج بقلوب ممتلئة بالتوقعات، فتتحول العلاقة إلى مساحة اختبار للذات والآخر. وحين تظهر علامات الإنهاك المبكر - شك، تردد، غياب الأمان، أو اختلافات قيمية حادة - يكون الرحيل في هذه المرحلة أحيانًا أشجع من الاستمرار، لأن الانفصال هنا لا يحمل تبعات قانونية ولا اجتماعية ولا عاطفية بحجم انفصال زوجي، بينما تجاهل الإشارات ينقل نفس الألم إلى مؤسسة الزواج حيث يصبح ثمن الخطأ مضاعفًا.

أما في الصداقة، فالأمر يحمل حساسية من نوع آخر؛ فالأصدقاء ليسوا مُلزمين أمام المجتمع بعلاقة رسمية، لكنهم يلعبون في حياة الإنسان دورًا لا يقل عمقًا عن أي قرابة، فالصداقة المؤذية قد لا تكسر البيت، لكنها قد تكسر النفس. الأصدقاء الذين يستهلكون طاقة الروح، يثيرون القلق، أو يزرعون الشك في قيمة الذات، يؤثرون بطريقة لا تراها العين لكن يسجلها الجسد.. انقباض صدري، قلق اجتماعي، أو شعور دائم بعدم الكفاية، ومع ذلك، فإن إنهاء علاقة صداقة يحتاج إلى شجاعة من نوع مختلف، لأنه لا يحمل أدوات فك الارتباط الواضحة، كما في الزواج أو الخطوبة، بل يحتاج إلى حكمة في الانسحاب دون أن يترك الإنسان نفسه لفراغ العلاقات أو لوهم أنه قادر على حمل الجميع داخل قلب واحد.

ووسط هذه الصور كلها، يبرز البعد الديني والأخلاقي كصوت يسعى إلى التوازن، فالدين، مهما اختلفت مرجعياته، يرفع من شأن الصبر والإصلاح والتسامح، لكنه في جوهره يضع حفظ النفس والكرامة فوق كل اعتبار. القاعدة الذهبية «لا ضرر ولا ضرار» تعلو على كل ما دونها، ورجال الدين والاجتماع حين يتحدثون عن العلاقات لا يدعون إلى التحمل الأعمى، بل يحثون على الإصلاح ما دام الإصلاح ممكنًا، وعلى الرحمة بالنفس وما دامت النفس تتآكل، فليس من الفضيلة أن تُهلك ذاتك باسم الصبر، ولا من الدين أن تظل مسجونًا في علاقة تكسر إنسانيتك.

وهكذا يظهر أن القوة ليست قرارًا ثابتًا في البقاء أو الرحيل، بل قدرة على رؤية الحقيقة كما هي لا كما نريدها، الإنسان القوي ليس من يغادر دائمًا، ولا من يبقى دائمًا، بل من يسمع صوته الداخلي حين يصرخ، ويزن أثر العلاقة على نفسه وعلى من حوله بميزان ناضج، الزواج يحتاج صبرًا لكنه ليس سجنًا، والخطوبة تحتاج فرصة لكنها ليست عهدًا أبديًا، والارتباط العاطفي يحتاج صدقًا لكنه ليس قيدًا، والصداقة تحتاج وفاء لكنها ليست مبررًا لاحتمال الأذى.

في النهاية، القوة هي أن تقول، هذه العلاقة تُنمّيني.. أو تُنهكني. وهذه الخطوة ستنقذني… أو تكسّرني، هذه العلاقة تشبع احتياجي من المشاعر والاحتواء أم تجعلني دائماً في عطش عاطفي وخيبة أمل، وأن تختار الطريق الذي يجعل قلبك أكثر إنسانية، لا أكثر انطفاءً. فالحياة ليست اختبارًا للصبر وحده، بل اختبارًا للرحمة.. والرحمة بالذات قبل كل شيء.
--------------------------
بقلم: سحر الببلاوي


مقالات اخرى للكاتب

من الذي «يتحرَّر» أولاً من العلاقات المرهِقة: القوي أم الضعيف؟