في الزمن الذي تُلتقط فيه الجريمة بعدسات الهواتف قبل أن تُسجَّل في دفاتر النيابة، يصبح المجتمع مسرحاً مفتوحاً، لا تُسدل عليه الستائر إلا عند لحظة العقاب. مشهدٌ فادحٌ يحكمه منطق معكوس: الجريمة علنية، صاخبة، متباهية أحياناً، بينما العقوبة سرٌّ يُهمَس به في الممرات، أو تُخفى وراء أبواب مغلقة حتى تُفقد أثرها التربوي وتبهت هيبتها القانونية.
في زمنٍ تخرج فيه جريمة القتل العمد من عباءة الخطيئة لتتحوّل إلى مشهديّة مكتملة الأركان، يصبح المجتمع أمام ظاهرة تتجاوز الفعل الإجرامي ذاته: سرطان علانية جريمة القتل العمد وسرية عقوبة الإعدام.
ظاهرتان متجاورتان لا تنتج سوى بيئة مضطربة يتصدّع فيها الوعي الجمعي، وتنهار فيها فلسفة الردع التي بُني عليها القانون الجنائي منذ قرون.
- سرطان علانية جريمة القتل العمد
لم يعد القتل العمد جريمة تُرتكب في الظلام أو تُغطّيها دوافع غامضة. لقد تحوّل في كثير من الوقائع إلى عرضٍ حيٍّ يجري أمام الجمهور:
قاتلٌ يوثّق جريمته، أو آخر يبث خطواته على الهواء، أو ثالث يتحوّل إلى " تريند" قبل أن تصل النيابة إلى مسرح الجريمة.
-هكذا تنشأ علانية المرض:
جرائم تُلتقط بكاميرات الهواتف، تُنشر بلا حياء، وتتداولها منصّات التواصل كأنها مشاهد من فيلم، لا كفعل يُزهق روحاً ويهدد وجود المجتمع ذاته.
لقد فقدت جريمة القتل رهبتها، تماماً كما يفقد الجسم المناعة عند انتشار الخلايا السرطانية.
وما يؤلم أكثر أن العلنية لم تعد عارضاً، بل أصبحت وسيلة تمجيد غير مباشرة، تمنح الجاني بطولةً رمزية، وتجعل الضحية هامشاً في روايةٍ فاسدة الصياغة.
سرطان علانية الجريمة لم ينشأ فجأة؛ هو تراكمٌ اجتماعي، تمدّد في جسد الدولة حتى صار أشبه بورمٍ خبيثٍ يضغط على ضمير المجتمع. فقد تحوّلت بعض الجرائم إلى عروض جماهيرية: اعتداء في شارع، اغتصاب يُصوَّر، تحرش يُبثّ، وخطفٌ، كل ذلك تتداوله المنصّات لحظةً بلحظة. لم تعد الجريمة تستحي من النور، بل صارت تتغذّى عليه. انتقلت من الفعل المستتر إلى المحتوى الجماهيري. وهنا يكمن أخطر التحوّلات: أن يفقد الجمهور رهبة الفعل، وأن يمرّ المشهد الإجرامي كما تمرّ الإعلانات بين البرامج.
- سرية عقوبة الإعدام… حين يختفي الردع خلف الستار
يُعلن صدور الحكم بعقوبة الاعدام، ثم يغيب كل شيء خلف الأبواب المغلقة.
على الضفة المقابلة تقف سرية تنفيذ عقوبة الإعدام خجولة وكأنها تنفذ على استحياء!!! رغم كونها أقصى ما يملكه القانون من أدوات الردع ــ في حالة من الصمت المطبق. ذلك الستر الذي يقلب فلسفة الردع رأساً على عقب. فالعقوبة في جوهرها ليست فقط جزاءً شخصياً، بل رسالة عامة تُعلن أن المجتمع ما زال يحمي نفسه، وأن القانون لم يفقد قدرته على الدفاع عن حدوده الأخلاقية. ولكن حين تُدار العدالة من وراء الحجاب، وحين يغيب الجمهور عن لحظة تنفيذ العقوبة، يفقد القانون الكثير من قوته الرمزية وهيبته.
القضاء بطبيعته يميل إلى التحفّظ، وهذا مفهوم. لكن التضييق الشديد على علانية تنفيذ عقوبة الإعدام، خلق فجوة هائلة بين الناس وبين مؤسسة العدالة. في هذه الفجوة تنمو الشائعات، وتترعرع التصورات الخاطئة، ويكتسب المجرم بطولة إعلامية.
ويظهر جوهر المأساة حين تنكشف الجريمة على الملأ، حين يكون الفعل علنياً ورد الفعل سرياً، يختل ميزان الردع، ويشعر الجاني بأن المسرح ملكٌ له، وأن الجمهور لن يشاهد إلا الجزء الأول من العرض.
إن سرّية الإعدام لا تمسّ فقط فلسفة العقوبة، بل تمسّ الثقة في العدالة.
فالعقوبة العظمى إذا حُجبت عن الجمهور، وإذا انقطع أثرها التربوي، ستتحوّل إلى جزاءٍ تقني يُدار في الظل، بينما تبقى الجريمة وحدها تحت الأضواء.
وحين يرى الناس القتل ولا يرون العقاب، يتسرّب إلى الوعي الجمعي أن الدولة غائبة، وأن القانون أضعف من أن يواجه هذا النزيف المتصاعد.
لا يدعو هذا القول إلى التشهير بالمحكوم عليهم أو إلى انتهاك كرامتهم أو تحويل الإعدام إلى مشهد إعلامي؛ فهذا يناقض قيم الدولة القانونية، فالعقوبة ليست انتقاماً. بل يدعو إلى تجسيد العدالة بجعل تنفيذ العقوبة علنيًا. فالعدالة التي تُرى تُصان، والعدالة التي تُخفى تفقد غايتها وربما تُساء قراءتها.
لكننا نقول بوضوح: شفافية العدالة ليست ترفاً، بل ضرورة لحماية المجتمع من الخلط بين الرحمة والرخاوة، وبين حقوق الإنسان وحقوق الجناة.
فإذا كانت علانية الجريمة وسرّية العقوبة بوصفهما خللاً بنيوياً يؤثّر في الأمن القانوني والاجتماعي.
فإن إسقاط هذا الخلل على جريمة القتل العمد وعقوبة الإعدام تحديداً، تتّضح الصورة أكثر:
فعندما تُصبح الجريمة نجمةَ الشاشة، تخرج إلى الشوارع والهواتف والمنصّات، وتصبح مادة للمشاهدة والتعليق وتشكيل الرأي العام، بينما عقوبة الإعدام، التي يفترض أن تُعيد ميزان الردع إلى موضعه، تنسحب إلى غرف ضيقة، فلا يسمع عنها الجمهور إلا جملة مقتضبة في نشرة المساء.
ساعتها يصبح القانون موظفاً خلف الستار، ندرك أننا أمام خلل عميق يحتاج إلى إعادة صياغة فلسفة العلانية والسرية في المنظومة الجنائية.
هكذا تتكوّن دائرة معيبة:
مشهد دمٍ معلن، وعقوبة مكتومة.
والنتيجة: تآكل هيبة القانون، وصعود خطاب غوغائي يُطالب بالثأر لأنه لا يرى أثر العدالة، وتزايد جرأة الجناة الذين يشاهدون القتل ثم لا يرون الردع.
لا يطلب المجتمع خشونة، بل يطلب وضوحاً.
لا يطلب التشهير، بل يطلب الاطمئنان.
وحين يتساوى غياب العقوبة مع غياب العدل، يصبح الطريق ممهداً نحو الفوضى الأخلاقية.
من هنا، يصبح من الضروري: تنفيذ عقوبة الإعدام علانية حتى يتحقق الردع العام. فضلا عن ضبط تداول مشاهد الجريمة.
ذلك هو الدرس الذي ينبغي أن يُكتب على بوابة العدالة: الجريمة إذا صارت علانية بلا رادع، والعقوبة إذا تسرّبت إلى الظلال، فالمجتمع بأكمله هو الذي يدفع الثمن.
ختاماً
إن جريمة القتل العمد ليست فعلاً ضد شخص بعينه، بل هي جرحٌ في ضمير الأمة.
وعقوبة الإعدام ليست بدورها فعلاً انتقامياً، بل هي قرارٌ سيادي يعلن أن الحياة الإنسانية خط أحمر.
وحين تُعرض الجريمة في النور، وتُنفَّذ العقوبة في الظلام، يصبح المجتمع كله هو الضحية الثالثة:
ضحية بين قاتلٍ متباهٍ وعدالةٍ صامتة.
إنّ مواجهة سرطان علانية الجريمة لا تتمّ فقط بالقوانين، بل أيضاً بإصلاح خطاب المجتمع حول الجريمة والعقوبة. يجب أن يتوقّف الاحتفاء غير المباشر بالمجرم، ذلك الذي تصنعه المنصّات عبر تداول أفعاله قبل أن يُثبتها القضاء. يجب أن يُعاد الاعتبار لصوت القانون، لا من خلال تشديد العقوبة، بل من خلال إشهارها بالقدر الذي يحفظ كرامة الإنسان ويعزّز هيبة العدالة.
في النهاية، ليست المشكلة في أن الجريمة تُرتكب، فهذا شأن الإنسان منذ كان على الأرض. بل في أننا صرنا نراها ونعتادها ونشارك في بثها، بينما العقوبة ــ التي يفترض أن تُعيد الأشياء إلى نصابها ــ تُحجب حتى تفقد وظيفتها الاجتماعية.
وما لم نُعد التوازن بين علانية الجريمة وسرية العقوبة بوجه عام، ستظل القِيم الجنائية تتآكل، وسنظل نرى الدم واضحاً، والعدالة غائبة عن المشهد...وللحديث بقية دمتم آمنين.
---------------------------------------
بقلم: د. عمرو عبدالرازق تعلب
* كاتب وباحث في العلوم الجنائية






