الطبقة الوسطي في أي مجتمع هي البطن الرخوة التي تكون غالباً الأكثر تعرضاً للأزمات الحادة أثناء اجتياز المجتمع لصعوبات إقتصادية .
فهي تكون غير محصنة سياسياً، مثل الطبقات الأعلي التي ترتب علي الدوام خطوطها الدفاعية في مواجهة أي تقلبات، حيث تتيح ثرواتها المتراكمة امتصاص الآثار السلبية، وشراء المواقع السياسية التي تحصنها قانونياً أو فعلياً .
كما أن الطبقات المعدمة، تكون محصنة بفقرها، من التأثر لأنها في النهاية قابعة في قاع المجتمع منذ البداية، ولا يتجاوز طموحها مجرد القدر النذير للبقاء علي قيد الحياة.
لذلك تكون نقطة التأثر والتأثير متركزة في محيط الطبقة المتوسطة، التي تمثل رمانة الميزان في الإحتفاظ بإستقرار المجتمع، أو في تحريك طوفان التغييرات إنقاذا لما تملكه، وإنفاذاً لمخزون القيم القانونية التي تمثل رصيدها الحقيقي، والذي هو في حقيقته جوهر فكرة التقدم الحضاري.
تشكل الطبقة المتوسطة مركز الثقل في معظم المجتمعات المعاصرة، سواء من حيث حجمها أو من حيث الوظائف السياسية والاقتصادية التي تنهض بها، وتُجمع محاولات تحليل المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي على أن هذه الطبقة هي القاعدة الحقيقية للنمو الحضاري، والضامن الأخلاقي لاستمرار فكرة الدولة الحديثة القائمة على القانون والمؤسسات والجدارة، غير أن هذه الطبقة، على الرغم من أهميتها، تبقى الأكثر تعرضاً للضغط خلال المراحل الانتقالية أو الأزمات الاقتصادية، لافتقارها إلى أدوات الحماية التي تمتلكها الطبقات العليا، ولعدم امتلاكها قابلية “التحصّن بالفقر” التي لدى الطبقات الدنيا.
ومن أهم خصائص هذه الطبقة هي :
1. الاعتماد على الدخل الثابت:
تتشكل الطبقة المتوسطة من موظفين، مهنيين، خبراء، أصحاب مهارات تقنية، ومعلمين. ويعتمد أغلبها على دخل ثابت يجعلها شديدة الحساسية للتضخم أو تغيرات القوة الشرائية.
2.غياب التحصين السياسي :
على خلاف الطبقات العليا التي تملك نفوذاً سياسياً أو اقتصادياً، تفتقر الطبقة المتوسطة إلى أدوات التأثير المباشر في القرار العام، مما يجعلها موضوعاً للسياسات لا صانعة لها.
3. انعدام “درع الفقر الوقائي”:
الطبقات الدنيا، رغم هشاشتها، تمتلك نوعاً من الثبات لأنها لا تدفع ثمن تراجع نظم الرعاية بنفس حدة الطبقة المتوسطة، التي تعتمد على الخدمات وتدفع كلفة انهيارها مباشرة.
ورغم هذه الخصائص المقيدة ، تظل هذه الطبقة هي الحامل الحقيقي للقيم المدنية، لذلك تنسب الأدبيات الحديثة إلى الطبقة المتوسطة دوراً رئيسياً في ترسيخ قيمة القانون، والنظام، والشفافية، والجدارة، بوصفها أدوات حماية لمكتسباتها.
أي أن هذه الطبقة تعد في التحليل الأخير هي رمانة الميزان في التحركات المجتمعية، فهي تتدخل في لحظات “قلق المكانة الاجتماعية” خوفاً من الانحدار الطبقي، وهذا التدخل قد يأخذ شكل المشاركة السياسية، الاحتجاج، الهجرة، أو المطالبة بالإصلاحات، وذلك لأنها تمتلك إنتاج المعرفة والخدمات، فهي الطبقة التي تدير غالباً المؤسسات، وتُدرّس، وتُطبّب، وتنتج الأجهزة البيروقراطية التي تحرك الدولة، بحيث يؤدي تآكلها مباشرة إلى تدهور الأداء المؤسسي.
ويمكن ملاحظة تآكل الطبقة المتوسطة وتوسّع الفجوة الطبقية بشكل عولمي، فقد شهد العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي ظاهرة “ تجاويف الطبقة المتوسطة (The Hollowing Out of thr Middle Class)، حيث تراجعت فرص العمل المستقرة، وتوسع الإقتصاد غير الرسمي، وتضخمت الطبقة العليا ثروة لا عدداً، وقد أرجعت أغلب المراجع هذا التراجع إلي سبعة عوامل رئيسية هي :
1. التكنولوجيات التي ألغت وظائف متوسطة المهارة.
2. العولمة وتراجع الصناعات المحلية.
3. تضخم تكاليف التعليم والصحة.
4. زيادة عدم المساواة في الدخل والثروة.
5. ضعف النقابات.
6. الخصخصة الواسعة.
7. تراجع الحراك الاجتماعي.
وهكذا نري أن الطبقة المتوسطة هي “الطبقة الحاسمة” للمجتمعات الحديثة، فاستقرارها يعني استقرار الدولة، وتآكلها يُنتج اضطراباً سياسياً، وتطرفاً، وتراجعاً حضارياً، ومن هنا، تصبح حماية هذه الطبقة ضرورة استراتيجية لا اقتصادية فقط.
يتطلب كل ذلك إيجاد استراتيجيات لتعزيز صمود الطبقة المتوسطة في إطار سياسات محددة لحماية رمانة الميزان الاجتماعي، فحماية الطبقة المتوسطة ليست سياسة اجتماعية فحسب، بل هي سياسة أمن قومي في الأساس، لأن استقرار هذه الطبقة يضمن الاستمرارية المؤسسية، ويعزز الثقة العامة، ويمنع الانزلاق نحو التقلبات السياسية الحادة.
فلا جدال أن الطبقة المتوسطة حالياً تواجه تحديات بنيوية تتراوح بين التضخم وتآكل الدخل الحقيقي، وتراجع جودة الخدمات العامة، ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع الحراك الاجتماعي. هذه التحديات تُنذر بتحول أعداد واسعة منها إلى الهشاشة أو الفقر.
والأهداف الإستراتيجية لهذه السياسات يجب أن تتوخي:
1. الحفاظ على القوة الشرائية للدخل المتوسط.
2. ضمان جودة خدمات عامة منخفضة التكلفة (التعليم – الصحة – النقل).
3. تأمين فرص حراك اجتماعي نحو الأعلى.
4. تعزيز استقرار الوظائف وزيادة الحماية القانونية للعاملين.
5. دعم الطبقة المهنية عبر التدريب والمهارات المتقدمة.
ومن المهم أن تشتمل الخطة علي سياسات اقتصادية وإجتماعية تضمن ما يلي :
1. ضبط التضخم عبر آليات رقابية فعالة وتحسين التنافسية.
2. إصلاحات ضريبية عادلة: تقليل العبء عن الطبقة المتوسطة وفرض ضرائب تصاعدية على الثروة.
3. دعم السكن الميسر للفئات المتوسطة.
4. برامج تدريب مستمرة لرفع المهارات التقنية والمهنية.
5. تشريعات تحمي العمل المستقر من العقود الهشّة.
6. دعم ريادة الأعمال المتوسطة والصغيرة.
7. مجانية التعليم الأساسي وتعزيز جودته.
8. تحسين التأمين الصحي العام ومنع تحميل الطبقة المتوسطة تكاليف باهظة.
9. تطوير النقل العام وتقليل الاعتماد على النقل الخاص المكلف.
10. صناديق تأمين ضد البطالة تستهدف المتعطلين من الطبقة المتوسطة.
11. منظومة معاشات قائمة على الاستدامة والعدالة.
ولا يمكن تحقيق كل أو بعض السياسات السابقة دون إطار قانوني ورقابي يضمن العناصر الأساسية التالية :
1. مكافحة الفساد الذي يقوّض الطبقة المتوسطة أولاً.
الشفافية في الإنفاق العام.
تمكين الطبقة المتوسطة من المشاركة في صنع السياسات عبر مؤسسات المجتمع المدني.
ومن اهم المؤشرات التي يمكن بها قياس نجاح هذه الخطة:
1. نمو نسبة الطبقة المتوسطة في المجتمع.
2. انخفاض معدل الانزلاق من الطبقة المتوسطة إلى الهشاشة.
3. زيادة الحراك الاجتماعي العمودي.
4. تحسين مؤشرات الثقة العامة في الحكومة.
5. زيادة معدلات الادخار والاستثمار المنزلي.
إن حماية الطبقة المتوسطة ليست رفاهية، بل شرط لتماسك الدولة الحديثة. السياسات المنشودة يجب أن تكون متكاملة، مستندة إلى تخطيط طويل المدى، وتتجه نحو بناء اقتصاد ينتج فرصاً لا فقاعات غير مستدامة وغير منتجة .
--------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق






