تمتليء الأدبيات المصرية بأقوال مثل "خليها علي الله" و"الرزق علي الرزاق" و "قل يا رزاق"، إلي غير ذلك من تعبيرات تشير إلي خصائص شعب مؤمن قدري يعتمد بشكل كلي علي الله دونما خوف علي رزقه، فالرزاق موجود، وذلك أمر طيب بشكل عام، وإن أدي إلي حالة من "التواكلية " المرفوضة، وإلي قتل روح المبادرة الفردية، وهيمنة الشللية وانتشار المحسوبية والفساد، وأصبحت الوظيفة الحكومية ليست خدمة مرفقية عامة، وإنما مجرد "أمان معيشي"، أي أنه وإن كان "الرزق علي الرزاق" ، فأن "الميري" أو الوظيفة الحكومية هي ضمان هذا الرزق، وبالتالي سادت ثقافة "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه"، وصار التزاحم والصراع لا يدور حول أنشطة إنتاجية أو مبادرات فردية وإنما حول وكلاء وسماسرة الوظائف الحكومية.
وقد وجدت أنظمة الحكم المختلفة أن توزيع الوظائف العامة يمثل رشاوي لضمان الولاء، ولذلك تضخم الجهاز الإداري في الدولة وترهل حتي تحول إلي ما يشبه "الكوليسترول" في شرايين الإقتصاد الوطني، فهو من ناحية جهاز ضخم معقد يسيطر علي تنفيذ القرارات الإقتصادية من خلال تشريعات ولوائح توالدت بكثافة كي تبرر وجود وتوسع هذا الجهاز المعطل، ومن ناحية أخري صار بوابات للفساد خاصة عندما تراجعت القيم الفعلية لأجر الموظف الحقيقي، الذي قبل مضطرا هذا الوضع، ولكنه اتخذ لنفسه سبيلا في زيادة دخله بأسالبيب غير مشروعة، وإن صارت بطول العهد بها تكتسب شرعية العرف، وأصبح من الطبيعي أن يطلب الموظف رشوة مقابل الخدمة التي يقدمها للمواطن، وتقبل المواطن ذلك بدوره مرغما كي ينهي معاملاته، وباركت أنظمة الحكم المختلفة هذه العلاقة الفاسدة بأن أغمضت عينيها، كي تستمر هذه المعادلة بلا أي مراجعة أو تغيير.
وقد كانت مشكلة محاولات التطوير التي وصلت مثلا في عهد السادات إلي تسميتها "الثورة الإدارية"، أن القائمين علي التغيير أنفسهم هم من كبار الموظفين، أو ممن لهم مصلحة في بقاء هذا الوضع علي حاله، وكانوا يسوغون ذلك للحكام بأنه ضرورة الإستقرار، أو أنه لا توجد بدائل، أو أن الموظفين هم الطبقة المتوسطة التي يحسن مهادنتها وإلا تهدد الحكم ذاته.
والحقيقة أن السبب الرئيسي في ذيوع هذه الثقافة هو عجز الحكم عن تقديم بدائل حقيقية ومغرية للمواطن المصري، حتي أصبح الإبتعاد عن الوظيفة الحكومية بمثابة "قطع العيش"، وهو إصطلاح مصري أصيل، ذلك رغم وجود نماذج متفوقة كانت لديها الجرأة في المبادرة الفردية، أبرزها طلعت حرب الذي أسس أول بنك مصري في ظل منافسة حادة من بنوك أجنبية كانت تركب الإقتصاد المصري حرفيا، ولكن لا يمكن أن نغفل أن هناك عوامل موضوعية كثيرة أسهمت في نجاح تجربة طلعت حرب، أبرزها في تقديري أجواء ثورة 1919 التي دفعت دماء حارة في شرايين المجتمع المصري، كي تحمسه لاسترداد هويته وأستقلاله.
إن هناك أهمية قصوى لمواجهة هذا السرطان الإداري الذي يعشعش في أركان الدولة ملتهما جزءا هائلا من ميزانية الدولة وبغير عائد حقيقي، ولكن ذلك يقتضي حوارا جادا داخل المجتمع، وإعداد بدائل عملية تضمن عدم "قطع عيش" الموظفين، وأهمية أن يتم ذلك بعيدا عن لجان كبار الموظفين المعتادة، وسماسرة السياسة التي تتغذى علي أمراض المجتمع.
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق







