إمضاء .. (سيد أحمد عزام المُستدعَى من العزيزية العامرة إلى القاهرة القاهرة)، هو ذيلُ الرسالة، التي أرسلها إلى مستشار الوزير للغة العربية آنذاك الشاعر الكبير علي الجارم، يُخبره فيها رفضه تركَ العمل بقرية العزيزية بالشرقية، حيث الخضرة ونخوة الفلاحين، وبساطة العيش، والانتقال لمدينة القاهرة بصخبها وضوضائها، التي تجعل الحليم حيران!
اندهش الشاعر علي الجارم، من رفضه قرار النقل، فاستدعاه؛ ليقف على أسباب ذلك، خاصة أنّها فرصة يتقاتل عليها أقرانُه، ممن يلهثون وراء الدروس الخصوصية، التي زهد فيها الحاج سيد أحمد عزام، رحمه الله، وعبَّر عن ذلك بقوله: (شُلت يدي إن ضغطت على زر جرس بيت قصدتُه من أجل درس خصوصي) !
امتثل المدرس الشاب واقفا أمام الشاعر علي الجارم، ودار بينهما نقاش، اتفقا خلاله على أن يُنفِّذ قرار النقل، ويمكثَ في المكان الجديد فترة، وإن أعجبه المقام فبها ونعمت، وإلا عاد أدراجه.
آل إليه، عقب الموافقة، جدول حصص الشاعر فاروق شوشة، الذي كان قد ترك العمل بمدرسة النقراشي؛ ليلتحق بالإذاعة.
في بيت قوتُه الكفاف، وتقبيلُ اليد وجها وظهرا برهانا على القناعة والرضا، نشأ الطفل سيد أحمد عزام ـ مع إخوةٍ من صلب أب، أطعمهم من حلال، وغرس فيهم معنى الرجولة، والاعتماد على الذات، والرضا بالمقسوم ـ يملؤه الاعتدادُ بالنفس، والثقة في القرار، والسعي وراء الهدف، والحرصُ على التعلم؛ فرارا من قسوة العمل في الحقول تحت لهيب الشمس صيفا، وزخّات المطر شتاء، وما ينجم عن ذلك العمل الشاق من تشقق في اليدين والقدمين، وانحناء الظهر جراء الانكفاء على الأرض أثناء الحرث والزرع وجني المحصول.
طمح أبوه في أن يكون ابنه شيخ عمود في الأزهر، فزجَّ به في جنبات المعاهد الأزهرية، التي اجتاز بها المراحل الأولى حتى الثانوية الأزهرية، ثم التحق بعدها بميدان العمل؛ ليرفع الحمل الثقيل عن عاتق والده، فتمّ انتدابه معلِّما للمرحلة الابتدائية بمنطقة النوبة أقصى جنوب مصر، ومكث هناك فترة، ذاق خلالها مرارة الغربة ومشقة تعدد المهام، إذ كان هو المدرس والناظر والعامل في آن واحد، فرفع مذكرة لوزير التربية والتعليم، يناشده فيها العودة إلى موطن رأسه بالقليوبية، فاستدعاه الوزير، وردّ على مذكرته شفهيا بقوله: (نعطي النوبة إذن للسودان، مادام الخريجون يعزفون عن العمل بها).
قرعت العبارةُ أذن الشاب، فانصرف من أمام الوزير دون استئذان، على اعتبار أنّ عمله في هذا المكان النائى واجبٌ وطني، فظنّ الوزير أن انصرافه بهذه الصورة الفجّة، هو تعبير عن امتعاضه واعتراضه، فاشتاط غضبا، وقرر أن يوقع عليه الجزاء، لكن وسطاء الخير، أزالوا سوء الفهم، وهو ما نجَّا سيد أحمد عزام من جزاء قاس.
عاد سيد أحمد عزام إلى منطقة النوبة، وقرّر أن يُكمل دراسته الجامعية، فالتحق بكلية اللغة العربية، ووازن بين العمل والمذاكرة، حتى اجتاز سنوات الدراسة بتفوق، وانتقل عقب تخرجه للعمل بالمرحلة الإعدادية، فربّى تلاميذه على مبادئ وقيم، ظلت بالنسبة لهم منهج حياة، ومعالم طريق، يدينون بفضل تحصيلها للأستاذ الكبير سيد أحمد عزام.
امتاز الفقيد ـ طيب الله ثراه ـ ببسطة في الجسم، صاحبها حلمٌ في الطبع، وفصاحةٌ في اللسان، وحجةٌ في الرأي؛ ممّا جعله ـ بجانب نجاحه مدرسا ـ زينةَ المجالس العرفية، والحَكمَ الفصل في قضايا المتخاصمين.
في قرية كان المذياع، والجريدة الورقية هما وسيلة المعرفة، اعتاد بائع الجرائد أن يأتيه بجريدة الأهرام كلّ صباح؛ ليطالع الأخبار، ويقف على الأحداث في مصر والمنطقة العربية كلها، ويقرأ لكبار الكتّاب.
امتاز الفقيد بوضوح المنهج وثباته في مدرسته وبيته، فكان في البيت أبا رحيما، ومعلما حازما، لا يسمح بخطأ، ولكنه يقوّم بحلم.
جاء في عقبه ـ رحمه الله ـ ذريةٌ طيبة، اقتفوا أثره واتّبعوا منهجه، فكانوا خيرَ خلف لخير سلف.
رغم شدة الفقر، حرصَ الفقيد على جمال الهندام، وأناقة الملبس، الذي كان فيهما أعجوبة زمانه.
رحم الله الفقيد الكبير الحاج سيد أحمد عزام عون المستغيث، وراسم البسمة على وجه كلِّ محتاج، والذي أكدت حياته وكفاحه أنه ليس هناك مستحيل.
استئناسا بحكاية أولاده ببيتهم العامر.
----------------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام






