تتبدّل مسارات الأمم عبر لحظات تبدو بسيطة في ظاهرها، وإن حملت في جوهرها أفكارًا قادرة على تغيير موازين التاريخ ومساراته. من مصر القديمة إلى القرن الحادي والعشرين تتكرر حقيقة أن الفكرة هي القوة الخفية في بناء الأوطان.
ابتكر المصري القديم "الشادوف" ورفع به مياه النيل فمكنه ذلك من توسّيع الرقعة الزراعية، وأسّس لفكرة استخدام الهندسة في تعظيم الموارد. وهداه تأمله الدقيق لحركة النجوم والكواكب إلى وضع تقويم فلكي مر عليه أكثر من سبعة آلاف عام، ولا يزال يستخدم لتنظيم أعمال الزراعة. هذان مثالان نموذجيان لتوظيف المعرفة في خدمة الإنسان ورفع جودة الحياة.
أيضًا، استثمر الخديوي إسماعيل العُمران في نهضة الدولة المصرية، فتمددت القاهرة في الاتجاهات الأربعة، وربط بين أجزائها بشبكة مواصلات حديثة، وجعل من قلب العاصمة، القاهرة الخديوية، دُرة تتلألأ بطراز معماري فريد، فاستحقت لقب "باريس الشرق"، كما ربط القاهرة بميناء الإسكندرية بخط سكة حديد، كان الثاني على مستوى العالم بعد إنجلترا.
وفي منتصف القرن العشرين، تجلت قوة الفكرة في لحظة مواجهة وجودية مع العدو الإسرائيلي، تمثلت أحد عناصرها في كيفية عبور ساتر ترابي بارتفاع يتجاوز العشرين مترًا، فكانت فكرة المهندس باقي يوسف، باستخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في الساتر، فتحوّلت المعركة من معادلة قوة إلى معادلة عقل.
وإذا كانت سنغافورة في ستينيات القرن الماضي جزيرة فقيرة بلا موارد، فقد استطاع لي كوان يو أن يحولها بالأفكار إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، لتصبح نموذجًا عالميًا في بناء دولة حديثة من الصفر تقريبًا، كان يرى أن الثروة في الإنسان والنزاهة والتعليم.
وفي سياق متقارب، قاد مهاتير محمد نهضة اعتمدت على فكرة أن التعليم والانضباط والعمل هم الأساس المتين لبناء اقتصاد صناعي تنافسي. أطلق برنامج "ماليزيا 2020" ووجّه الدولة نحو التكنولوجيا والصناعة، محولًا ماليزيا إلى قوة آسيوية خلال عقود قليلة.
وفي جنوب أفريقيا، خرج "نيلسون مانديلا" من السجن بعد 27 عامًا، مؤمنًا بفكرة المصالحة بدل الانتقام. فكرة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، فأنقذ بلاده من حرب أهلية، وقدّم نموذجًا عالميًا لقيادة تمنح التسامح قوة تأسيس لا ضعف.
وفي الولايات المتحدة، وفي أحلك سنوات الكساد العظيم، طرح الرئيس فرانكلين روزفلت رؤية عُرفت بـ "الصفقة الجديدة". أعاد فيها تعريف دور الدولة كرافعة للدعم الاجتماعي حين ينهار الاقتصاد، فأطلق برامج العمل والحماية الاجتماعية، ورسّخ نموذج الدولة الحديثة التي توازن بين الحرية والمسؤولية.
ومؤخرًا، شاهدنا جميعًا الاهتمام العالمي والانبهار بافتتاح المتحف المصري الكبير، والذي جاء تتويجًا لبذرة غرسها الدكتور فاروق حسني وقت توليه حقيبة وزارة الثقافة، لإنشاء متحف يروي عبقرية الحضارة المصرية بطريقة حديثة تتناسب مع قيمتها من جانب، وتواكب التطور التقني من جانب آخر.
ولكن على النقيض تماماً، ورغم ما أسهمت به الأفكار في تقدم الأمم، يظل التاريخ شاهداً على أن فكرة واحدة منحرفة، من طينة أفكار أدولف هتلر، تستطيع أن تجرّ العالم إلى كارثة. فالفكرة حين تضلّ بوصلتها الأخلاقية يمكن أن تهدم أمماً، وتُشعل نيران صراع تعجز الإنسانية كلها عن إخمادها.
من الشادوف وعبقرية الفلك إلى المتحف الكبير وعبور خط بارليف، تظل الفكرة البطل الصامت وراء التحولات الكبرى. الفكرة لا تولد في فراغ؛ بل تنمو في بيئات تُعلي من قيمة العقل والنزاهة، وتؤمن بحرية الإبداع، وتفسح المجال للتجربة والخطأ. فحين تُصان هذه الحرية وتُوقَد مشاعل الوعي، يصبح المستقبل قابلاً للتطويع والتشكيل، وتتحول الأوطان إلى مختبرات حقيقية لصناعة التحولات الإيجابية.
----------------------
بقلم: د. م. محمد مصطفى الخياط
[email protected]






