03 - 12 - 2025

أسرى القناعات الزائفة .. حين يصبح الإنسان سجّان نفسه

أسرى القناعات الزائفة .. حين يصبح الإنسان سجّان نفسه

في زحمة الحياة اليومية، وبين صخب المعتقدات المتوارثة أو الأفكار التي نصل إليها من التجارب الشخصية، نجد كثيرين يضعون أنفسهم خلف قضبان غير مرئية، يسجنون أرواحهم داخل قفص ما يعتقدونه “الصواب المطلق”، والمفارقة أنهم، بعد سنوات من الصراع الداخلي، يمدّون أيديهم للآخرين بحثاً عمّن ينقذهم من قيود هم من صنعوها.

كم من أبٍ عاش عمره كله يُكرر على أبنائه ما عاش عليه: “هكذا تربيتُ وهكذا يجب أن تكونوا.”

لا يراجع نفسه، ولا يسأل: هل تغيرت الدنيا؟ هل كبرت العقول؟

يتمسك بما يعرفه كما يتمسك الغريق بخشبة قديمة، ظنًا منه أنه يحمي أبناءه، بينما هو في الحقيقة يبعدهم عنه خطوة بعد خطوة.

وكم من امرأة أو رجل ظلّوا سنوات في علاقة تُطفئ أرواحهم بدعوى أن “الصبر فضيلة”. بينما أظهرت دراسة نُشرت في مجلة الأبحاث النفسية الجسدية (Journal of Psychosomatic Research) عام 2018 أن البقاء لفترات طويلة في علاقات مؤذية يؤدي إلى ارتفاع مستويات الالتهاب الجسدي واضطرابات النوم وزيادة القلق، مؤكدةً أن الألم النفسي يتحول فعلياً إلى إنهاك عضوي، ومع ذلك، يتشبّث البعض بالأذى لأنهم أسرى لفكرة قديمة عن القوة الزائفة، فهم لا يرون الباب المفتوح أمامهم، ولا يسمعون صوتهم الداخلي الذي يصرخ: “اخرجوا ".

وكم من شابٍ عاش سنوات يخشى تغيير عمله، لأنه قيل له إن الأمان أهم من الشغف، وأن تغيير الطريق مغامرة غير محسوبة، ظل ينتظر أن تمنحه الحياة ما لم يجرؤ على منحه لنفسه، حتى تكلست روحه في الوظيفة ذاتها، بينما كان في داخله حلم صغير يطرق الباب كل يوم ولا أحد يجيب.

هذه الظاهرة ليست نادرة، فكم من شخص عاش أسيراً لفكرة قديمة عن النجاح، أو عن مفهوم الرجولة والأنوثة، أو عن معنى السعادة، ليكتشف لاحقاً أن كل ما تبنّاه كان وهماً كبّل إرادته وحجّم خياراته، وكأن الإنسان، بدلاً من أن يصنع حريته، يحوّل معتقداته إلى سلاسل تطوّق عنقه وقيود تثقل خطواته.

أحد علماء النفس يصف الأمر قائلاً: “أخطر أنواع السجون هي تلك التي لا نراها، حين يؤمن المرء أن ما بين يديه هو الحقيقة المطلقة، يفقد القدرة على المراجعة، وعندها تتحول حياته إلى دوامة مغلقة، مهما حاول الآخرون مدّ يد العون له " .

ايضا تشير دراسة منشورة في مجلة علم النفس الاجتماعي والشخصية (Journal of Personality and Social Psychology) إلى أن التمسك بالأفكار القديمة نابع غالباً من ما يسمى بـ"الانحياز للتقليد"، وهو ميل الإنسان إلى اعتبار ما يعرفه أصحّ مما لا يعرفه، حتى لو تعارض مع الواقع أو الخبرة.

القضية هنا ليست في “الإيمان”  بهذه المعتقدات بحد ذاته، بل في التمسك الجامد بما نظنه صواباً، حتى ولو أثبتت التجربة والواقع عكس ذلك، فالشخص الذي يصرّ على السير في طريق واحد لأنه يظنه الطريق الأوحد، ربما يصل متأخراً لاكتشاف أن هناك عشرات الطرق الأخرى المؤدية للهدف ذاته، بل وربما أقصر وأكثر أماناً.

من الناحية الإنسانية، هذه الحالة تولّد إحباطاً عميقاً، إذ يشعر الفرد أنه محاصر، لا لأنه مقيّد من قِبَل الآخرين، بل لأنه يرفض التحرر من داخله، وهذا ما يفسّر استجداء البعض للنصح أو التوجيه، رغم أن مفاتيح الخلاص موجودة في جيوبهم منذ البداية.

الحل يبدأ بالاعتراف ، فالجرأة على مراجعة الذات تعني تحطيم أول قيد، والتصالح مع فكرة أن الحقيقة نسبية، وأن الخطأ جزء من التجربة الإنسانية، يفتح نوافذ جديدة للنور، و كذلك، فإن الإصغاء للآخرين لا يعني بالضرورة التنازل عن قناعاتنا، بل قد يكون مدخلاً لإثرائها أو إعادة صياغتها بما يجعلها أكثر مرونة واتساقاً مع واقع الحياة المتغير.

وتؤكد دراسة صادرة عن جامعة ستانفورد حول "العقلية الجامدة مقابل العقلية النامية" أن الأشخاص الذين يرفضون مراجعة أنفسهم يعيشون مستويات أعلى من القلق والشعور بالعجز، بينما يحقق أصحاب العقلية المرنة مستويات أعلى من النمو والرفاه النفسي .

وهنا تأتي أهمية الوعي: الوعي بأن هذا السجن مفتاحه  ليس خارجه، بل داخلك ، وأن كسر هذه القيود مسؤوليتك أنت، وبداية  للتصالح مع الذات، مروراً بمسامحة الآخرين، ونهاية بتحرير العقل من قيود صنعها بنفسه، فالحرية الحقيقية تُصنع عندما يتحرر العقل، ويفتح أمامك آفاقاً جديدة للحياة .

أحد الادباء يقول " أقسى السجون وأشدها إيلاماً ليست تلك المصنوعة من أسوار وجدران خرسانية، بل هي تلك التي تُبنى في داخلنا، في عقولنا وأرواحنا. هذه السجون الخفية تسجننا بمخاوفنا، شكوكنا، أحزاننا، وقيود التفكير السلبي إنها قيود نضعها بأنفسنا دون أن ندرك، فنصبح أسرى لماضٍ يؤلمنا، أو قلق يُثقلنا، أو مشاعر عجز تمنعنا من المضي قُدماً. حين يُحاصر الإنسان في أفكاره، يصبح السجن داخلياً، يرافقه أينما ذهب، يصعب الفكاك منه لأنه لا يُرى، ولا يمكن التغلب عليه إلا بإرادة قوية، ونظرة ثاقبة تستشرف الأمل من خلف ظلال اليأس.
--------------------------------
بقلم: سحر الببلاوي

مقالات اخرى للكاتب

أسرى القناعات الزائفة .. حين يصبح الإنسان سجّان نفسه