تذكِّرني هيئتُه المهيبة، وصوتُه الخفيض، وكلماتُه المركَّزة - التي تُصيبُ كبد الحقيقة، وتصل إلى المراد من أقصر طريق - بالعلَّامة المهيب أ.د. إبراهيم أحمد العدوي، عميد كلية دار العلوم بالقاهرة، نائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق - طيب الله ثراه - والذي كنَّا نتصفح الكتاب في محاضرته من الجِلدة للجلدة، ويحضُّنا على وضع خطوط تحت العديد من العبارات والجمل، التي يريدُ أن يميط عنها اللثام، ويكشف مرادها دون أن ينشغل بسرد فصول الكتاب وأبوابه.
هكذا كان أستاذُنا الفقيد جبر محمود جبر، رحمه الله، والذي كان هو الآخر مدرسا للتاريخ بمدرسة إمياي الثانوية المشتركة، إحدى قرى محافظة القليوبية .
كان أ. جبر محمود مدرِّسا لا يُحبُّ (اللتَّ والعجن)، ولا يحتفي بالسرد الممل للوقائع والأحداث التاريخية، كما اعتاد غيرُه من المدرسين، الذين جعلوا من حصص التاريخ أشغالا شاقة مؤبدة بالنسبة للطلبة؛ بسبب تفانيهم في سرد أكبر عددٍ من بنود المعاهدة، ودسِّ أنوفهم في الأحداث التاريخية، كما لو كانوا شركاء في صنعها، وحرصهم على معرفة أين يخبئ القردُ صغيره؟ وهل قُتلتْ شجرةُ الدر بالفردة اليُمنى أو اليسرى من قباقيب الجواري، ولون زي نابليون بونابرت أثناء قيادته للحملة الفرنسية على مصر، وغيرها من أسئلة سمجة، تنشغل بالسرد الممل للحدث التاريخي، وتغفل الدروس المستفادة منه .
لم يكن الأستاذ جبر محمود من هذا الصنف، إذ كانت حصَّته ( كلمتين وبس)، ورغما عن هذا، كنَّا نلمُّ بالمقرر إلماما، يجعلنا لا نفرِّط في درجة واحدة من درجات الامتحان .
قرَّبني الفقيدُ - رحمه الله - منه لأسباب منها أنّه كان لأناقة هندامه، ولمعان حذائه، يفرُّ من غبار (الطباشير)، فكنتُ لجمال خطي، أسطِّر له الدرس على السبورة، بينما يتفرغ هو لشرح الحصة في دقائق معدودة، دون أن يسمح بحركة أو همس داخل الحصة .
حرص أ. جبر محمود على الكيف، ولم ينشغل أبدا بالكم، ودشن حول نفسه بسبب طول صمته (صولجانا) من الهيبة والتوقير، ليس من التلاميذ فحسب، بل ومن المدرسين أيضا .
كان الفقيد داخل المدرسة، بجانب عمله مدرسا للتاريخ، عمدة أو شيخ بلد، فإليه تنتهي كلُّ قضية، وتزول بين يديه الخصومات؛ لأنَّه إذا أمر أطيع، وإذا حكم عدل، وإذا تكلم أُنصت إليه وإلا فلا!
امتاز الفقيد بالذكاء الاجتماعي، وقد أوقعتني الظروفُ في مأزق معه، فبرغم أنَّه كان يحبني؛ لأنني كنت ذراعه اليمنى داخل الفصل، إلا أنَّ العدل عنده فاق كلَّ اعتبار .
حدث أن كان الفقيدُ مشرفا يوما، يُسيِّر اليوم الدراسي، فيراقب تواجد المدرسين بالحصص، وعدم تأخر الطلاب عن دخول الفصول بعد الفسحة، وأمر بغلق البوابة بعد دق جرس الفسحة؛ ليُعاقب المتأخرين من الطلبة وكنتُ أحدهم، وأذن مؤذنٌ في المدرسة بأنَّ المتأخر سيُقرَع على راحتيه مرتين بعصا غليظه، أمسكها الأستاذ جبر بيده؛ ليهشَّ بها على غنمه، وله فيها مآربُ أخرى .
توسل إليه الطلابُ دون أن تجدي معه الاستغاثة، وفطنتُ إلي أنَّه لا مفرَّ من العقاب، وأنَّ الامتناع سيزيده استمساكا بموقفه، فأسرعتُ إليه، فطفق مسحا براحتي، ولامست عصاه كفي يدي لمسا خفيفا، ولم أحس بألم الضرب، فيما كان له مع من رفض العقاب موقفا تحاكى به الغلمان، ولم تغادر عصاه أكفهم إلا بالدم .
الحاج جبر محمود، نموذجٌ يُحتذَي للمدرس، الذي يحفظ مركزه، والمعلم المتقن لعمله، وهو ما جعله أهلا لثناء الموجهين، وحسن تقييمهم، فجابت شهرتُه الآفاق، واختير نتيجة ذلك للعمل بديوان وزارة التربية والتعليم، فكانت فترة أفادت منها القرية أعظم إفادة، حيث سارع الفقيدُ في مدِّ يد العون لكل محتاج، وإغاثة كلِّ ملهوف .. رحم الله الفقيد، وجعل عمله لبلده وتلاميذه وزملائه في ميزانه .
(من غِواية حكايات المدرسة)
-----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام






