منذ عدد قليل من السنوات، راهنت على إعلان وفاة التليفزيون؛ بعد أن استنفد أسباب بقائه، واعتلى منصته إما جاهل أو أراجوز يتنطط ويرقص مع ميمون في حضرة المشاهد!
امتد بنا العمر حتى كرهنا هذا الشيء المسمى بالشاشة رغم التطور التقني الهائل الذي شهده في العقود الثلاثة الأخيرة.
سبقت ذلك سنوات طويلة كان فيها التليفزيون متعتنا وثقافتنا وذكرياتنا متعلقة ببرامجه شديدة المتعة والفائدة والتسلية.
عاصرنا نجومه وحاورناهم فاكتشفنا عمق ثقافتهم، كنا نرى في الشاشة الصغيرة ـ التي اتسعت فيما بعد ـ لأحلامنا وبعض من ثقافتنا وكثير من واقعنا، كنا نتلمس بأرواحنا مسحة من السحر تغلف الشاشات، كنا مبهورين بأولئك السحرة الذين يتصدرون المشهد، نقدرهم ونوقن أنهم يستحقون النجومية، كان ظهور بعضهم على أغلفة المجلات المتخصصة كفيلا بتصفية كل نسخ التوزيع، كنا نسير في الشوارع المزدحمة إلى جوار نجوم الحوار التليفزيوني؛ فيكاد يتخطفنا الناس تقديرا ومحبة.
حدث هذا في العقود الأربعة الأولى للتليفزيون، من الستينيات وحتى قبيل الألفية الثالثة ... ثم جاء الانهيار سريعا، وأصبح مقدم البرامج التليفزيونية شخص عادي لا يثير اهتمام بائع الكازوزة!
أصبح بعضهم مسخا، مجرد أراجوزات، يصر بعضهم على التحدث إلينا وكأنهم علماء أو رسلا!
يتلو ما يملى عليه من الإعداد فيضيف عليها من ثقل ظله وبواخته ما ينفر المشاهد، كانت النتيجة الحتمية أن انصرف الناس عن الشاشات ووجدوا في الموبايل ضالتهم المفقودة من وسائل الاعلام البديل، ومن هنا كان يجب على أساتذة الاعلام الأجلاء أن يغلقوا أقسام الإعلام، وقد حدث هذا بالفعل في عدد من الجامعات المصرية، لنعلن معا: وفاة التليفزيون!
وفجأة جاء هذا البرنامج ليمنح قبلة الحياة لما تبقى من الشاشات، مرة أخرى أضيئت الشاشة الصغيرة بمدد إلهي ويالها من معجزات.
عن دولة التلاوة أتحدث، يقف من خلفه مجموعة من الصادقين الخلصاء، الذين لا يبحثون عن لعنة الترند حتى جاءهم راكعا، الفلوس ليست هدفا، فمقدموه ليسوا من المشاهير المنتفخين بهواء الغرور، بل الهدف جنة الرضوان وتقدير الناس واحترامهم، معهم آلاف الموهوبين من أصحاب المواهب الحقيقية الذين بح صوتنا على مدار عقود، نرجو الجميع أن يقلب التربة بالتفتيش عن المواهب في القرى والنجوع، لأولئك الذين لم تلوثهم عوادم المدن وزحامها وتوحشها وقتل المواهب لصعود التافهين، شاهدنا أطفالا وشبابا يشرح القلب ويفتح مسام الجلد السميك، ونجح البرنامج بسبب صدق النوايا وفطرة الموهبة التي رفع عنها الغطاء، تنصت إليهم في أدب جم مذيعة تستحق الدعم في مواجهة نظرة ذكورية بلهاء، وفريق إعداد وإخراج استفاد من الإمكانات الهائلة التي وفرها الانتاج.
شاهدنا برنامجا يعيد إلى الأذهان أمجاد عبد الرحمن علي وأحمد فراج، ليضيف إلى المشاهد متعة روحية كان يفتقدها في زمن انتشرت فيه أخبار اغتصاب الأطفال وهي أخبار مقززة ابتلينا بها، باختصار شاهدنا مواهب تأخذ حقها من الإنصات إليها بكل المتعة والخشوع؛ لتثبت أن البرامج الجادة لها أولويتها لدى الجمهور، وأن المشاهد لم يعط ظهره للتليفزيون إلا لافتقاده الجدية.
لا تسألوا عن أسرار نجاح برنامج دولة التلاوة، فقط اجلس وتوضأ واخشع واستمتع؛ فالبرنامج خال من التفاهات التي تتحفنا بها برامج المسابقات، على طريقة كيلو الرز فيه كام حباية!!
-----------------------------
بقلم: طاهر البهي






