24 - 11 - 2025

البحث عن ذات (2)

البحث عن ذات (2)

"موضوع الطبقة المتوسطة والتغيرات التي حدثت بها ولها هو من الموضوعات المهمة والتي حظيت بالكثير من الرصد والدراسة والتحليل سواء العلمي أو المبني علي الفن القصصي.  

ولعل من أعمق ما كتب في هذا الموضوع، مجموعة مقالات الدكتور أحمد زايد، مدير مكتبة الإسكندرية، التي نشرها في جريدة الأهرام اليومي، على مدى عدة أسابيع، ولست أدري إن كان تم تجميعها في كتاب أم لا. وفيها قسم هذه الطبقة – المتوسطة - إلى ثلاثة مستويات؛ الطبقة المتوسطة العليا، والمتوسطة، والدنيا. حيث رصد التغيرات التي حدثت لتلك الطبقة والأمراض التي أصابتها.

وعليه، فلا نستطيع أن نعتبر الطبقة المتوسطة ضحية للمتغيرات، وقد أصابتها تلك المتغيرات بأمراضٍ، إلا أنها في نفس الوقت كانت شريكًا أحيانا بصورة سلبية.

وترجع أهمية الطبقة المتوسطة إلى دورها المحوري في تقدم المجتمع، فهي طبقة محترفة تحقق دخلها من تقديم الخدمات الاحترافية والتي تعتمد بالأساس على العمل الذهني. وبالتالي، تعتمد هذه الطبقة على التعليم واكتساب المهارات، كما هو واضح من التطور الحادث حاليًا في الانتقال إلى مجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي والاستخدام المكثف للروبوت. من ثم، سيعاد صياغة دور هذه الطبقة وخاصة الجزء الذي يقوم بالأعمال البيروقراطية.

أما تأثير السفر إلى الدول العربية، وعلى الأخص الخليجية، فلم يقتصر أثره على الطبقة المتوسطة فقط، ولكنه امتد لجميع طبقات المجتمع، وهذا واضح من المظهر العام والملابس وأسلوب المعيشة. وكما قال المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي "إن الأموال لا تأتي وحدها، لكنها تأتي محملة بأخلاق الجهة القادمة منها".

تعقيب الدكتور حافظ السلماوي، الرئيس الأسبق لمرفق الكهرباء والأستاذ بكلية هندسة الزقازيق، على مقال الأسبوع الماضي "البحث عن ذات (1)"، والذي تحدثنا فيه عن التحولات الاجتماعية الدقيقة التي رصدتها رواية "ذات" للراحل صنع الله إبراهيم، وكيف تآكلت الطبقة الوسطى أمام سرعة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وفقدها القدرة على اللحاق بقطار التحولات، بعد أن كسح نهر المال القادم من الخليج، وما حمله معه من ثقافة وأفكار في كافة الاتجاهات، كما أشار توينبي، ما أمامه من معايير علم وقيم وأخلاق، بل وعادات وتقاليد يرجع بعضها إلى آلاف السنين. 

وعلى خلاف غريزة البقاء التي تتمتع بها الكائنات الحية، لم تقاوم الطبقة المتوسطة الموجات الوافدة بإعلاء قيمة الجودة والمهنية، بل سارعت لتقليد الطبقة الجديدة الصاعدة، فحلّت "الفهلوة" محل التخطيط، والمظهر السطحي محل المضمون العميق، وغلب البحث السريع عن المكسب على الاستثمار الطويل الأجل، مما يمكن النظر إليه كتنازل عن معايير وقِيم مهنية، دون مبرر، مما أصابها بانفصام؛ فمن جهة لم تستطع اللحاق بالطبقة الغنية الجديدة، ومن جهة أخرى، تخلت عن ثوابتها التي كانت تميزها كطبقة منتجة للمعرفة.

ولعل ما رفع وتيرة تجريف ثوابت الطبقة المتوسطة الانتشار الواسع لأجهزة التليفزيون والفضائيات، ومن بعدهما الإنترنت، فبعد أن كانت الأسرة تتحلق حول مصدر واحد للأخبار والأفكار، هذا باستثناء الكتب والمطبوعات، صار لكل شخص روافده الخاصة، ولا عجب أن بعضها كان ينبع من تحت جبال تورا بورا في أفغانستان، وبعضها من الحجاز، وبعضها من فارس، وغيرها من موارد الأفكار، وما هي بالقليلة.

نكمل في مقال قادم بإذن الله
--------------------
بقلم:
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

البحث عن ذات (2)