في نص البيان نقرأ العودة الى الاستعمار القديم وحق الانتداب للدول الغربية وحلفائها
صوّت مجلس الأمن في الامم المتحدة الأسبوع الماضي على مقترح وقف الحرب على غزة، وكانت نتيجة التصويت هي موافقة ثلاثة عشر دولة وامتناع دولتين فقط عن التصويت. وحقيقة الأمر، أن هذا البيان هو مقترح من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي يتضمن 20 بندا، أهمها ما يضمن إيقاف الحرب، وتشكيل مجلس للسلام، برئاسة دونالد ترامب، لإدارة شؤون الفلسطينيين لمرحلة انتقالية لم تحدد مدتها بعد. كذلك يضمن البيان نزع سلاح جميع فصائل المقاومة المسلحة، والذي لم تتمكن إسرائيل بدعم أميركا والغرب ودول المنطقة من فعله خلال عامين كاملين، وجعل غزة منطقة منزوعة السلاح، وإدخال قوة عسكرية دولية تعنى بتأمين الأمن والإشراف على نزع السلاح وتدمير البينة التحتية للمقاومة، أو ما أسموه البنية التحتية للإرهاب، في غزة. وقد وافقت جميع الدول الاسلامية والعربية، وكذلك السلطة الفلسطينية في رام الله (!) على هذا البيان، كما باركه الأمين العام للأمم المتحدة.
يمكن أن يعد هذا البيان سابقة منذ بدء الحرب، حيث لم يفلح هذا المجلس خلال عامين من الاتفاق على إيقاف الحرب أو الاتفاق على كيفية وآلية ايقافها، بل على العكس من ذلك، فقد عرقل المجلس بأعضائه الدائمين الخمسة، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، وأعضائه العشرة غير الدائمين، مقترحات عدة لإيقاف الحرب، طرحت على هذا المجلس منذ اندلاع الحرب في أكتوبر عام 2023، وقوبلت جميعها بالرفض من قبل الولايات المتحدة، ومرة واحدة من قبل روسيا، باستخدام حق النقض، الفيتو، المصرح به تبعا للوائح هيئة الامم المتحدة منذ تأسيسها منتصف القرن الماضي. هنا علينا أن نفهم بأن مجلس الأمن صمم، منذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة، أن يكون سلطة عليا، وذلك لعدم وجود أية جهة أعلى من هذا المجلس في الأمم المتحدة ولا حتى في العالم، يمكن لها مراجعة قرارات هذا المجلس أو محاسبته أو حتى الطعن بها، وأن تكون هذه القرارات لازمة، إلا لتلك الدول التي تحظي بدعم وحماية من قبل عضو دائم في المجلس. وقد شهد العالم اختراقات إسرائيل لقرارات المجلس لمئات المرات، معتمدة دائما على مساندة الولايات المتحدة لها في هذا المجلس. ورغم أن هناك في مجلس الأمن تباين في المصالح بين من يمثل السياسة الغربية، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وبين روسيا والصين من جهة أخرى، واللتان تمثلان مصالحهما فقط، إلا أن توافق المصالح الغربية المتمثلة بالحلف الغربي هو الأكثر استدامة منه من توافق مصالح روسيا أو الصين، اللتان ليستا دائما على وفاق وتختلف مصالحهما من منطقة إلى أخرى. وهنا تكمن خطورة هذا المجلس، الذي صمم منذ البداية ليخدم مصالح الدول الغربية ومخططاتها الاستعمارية. وأفضل دليل على ذلك هو إقرار هذا المجلس إقامة دولة إسرائيل عام 1947، حيث منح المجلس أكثر من نصف مساحة الأراضي الفلسطينية لليهود (حيث لم يكن هناك ما يعرف بإسرائيل بعد)، رغم أنهم كانوا يشكلون أقل من 10٪ من مجموع السكان، بينما منحت الأراضي المتبقية للفلسطينيين الذين كانوا يشكلون أكثر من 90٪ من السكان. ويتمتع هذا المجلس بصلاحيات مطلقة في استخدام القوة العسكرية للتدخل في شؤون أية دولة أو في حل النزاعات بين الدول حسب ما يراه ملائما لمصالح الدول الأعضاء. وبما أن مجلس الأمن ليس مقيدا بأية قوانين أو بلوائح، حتى تلك التابعة للأمم المتحدة، فيمكن اعتباره هيئة فوق القانون الدولي وذات سلطة مطلقة. وعليه فإن هذا المجلس يمثل تهديدا حقيقيا للسلام في العالم ولغالبية شعوب العالم التي تنضوي تحت لواء الدول ذات التأثير المحدود او اللا تأثير لها في العالم.
قرار مجلس الامن وتكرار معاهدة ڤرساي وسيڤر
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانتصار الحلفاء على دول المركز، وقعت معاهدة ڤرساي التي أذلت فيها ألمانيا، ثم أعقبتها معاهدات عديدة لتوزيع غنائم الحرب بين المنتصرين، ومن بين هذه المعاهدات كانت معاهدة سيڤر، والتي فيها تنازلت الدولة العثمانية عن كل الولايات التي كانت تسيطر عليها، واخترعت دول الحلفاء تشريعا لحكمها على هذه الولايات، أسمته الانتداب، وهو بمثابة وصاية مؤقتة حتى تتهيأ هذه الشعوب لحكم نفسها. وبذلك لا تعتبر هذه المناطق تعويضا لخسائر الحرب، وهكذا تغنم من الجهتين. فهل نحن بصدد إعادة هذه المعاهدات؟ أم أن المقترح الأميركي ذهب إلى ماهو أبعد من ذلك؟
إن قرار مجلس الامن 2803 والصادر في 17 نوفمبر من هذا العام، يعطي الصلاحية الكاملة لأميركا، وباستشارات إسرائيلية، لحكم قطاع غزة والإشراف على آليات تطبيق وقف إطلاق النار، والذي للآن لم تلتزم به اسرائيل. ولم يتضمن القرار أي بند يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني أو حقه في تقرير مصيره. ويُنصّب القرار مجلسا يحكم الشعب الفلسطيني في غزة، دون استشارة الفلسطينيين بذلك، ويقرر مصير هذه القطاع لمدى زمني غير محدد، ويمنحه التحكم بآلية الإعمار، ما سيعمر من المناطق المدمرة ومَن سيعمره وكيف. إضافة إلى إعطاء إسرائيل حق السيطرة العسكرية على أكثر من نصف مساحة القطاع واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، إن كان ذلك في غزة أو في الضفة أو في القدس الشرقية، المخالف لما هو منصوص عليه سابقا في قرارات محكمة العدل الدولية. بل إن هذا القرار يلغي تلك الحقوق الممنوحة من قبل هذه المحكمة للشعب الفلسطيني، ويتجاهل في نفس الوقت الأعراف والقوانين الدولية المتعارف عليها في حل النزاعات وتشكيل لجنة تقصي الحقائق بهدف محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية، التي لم يذكرها القرار من قريب أو بعيد. على العكس من ذلك، يكافئ القرار إسرائيل باستمرارها في احتلال الجزء الأكبر من أراضي غزة، وإعطائها الحق في التدخل في قرار من سيحكم الفلسطينيين وفرض نفقات التعمير لكل الدمار الذي قام به جيش الاحتلال على الدول العربية والمؤسسات المالية، مثل البنك الدولي، والمتبرعين من أغنياء العالم. وبذا يمنح إسرائيل فرصة التنصل من التعويضات ويمنحها منحة إضافية بمليارات الدولارات بتنصلها من دفع التعويضات لما ارتكبته من دمار في غزة والضفة الغربية. إن العالم لم يشهد من قبل مثل هذا التحول في مجلس الامن، وانصياعه للأوامر الأميركية وتسويقها كحلول إنسانية، حتى ذهب بعض قادة الدول الاسلامية إلى المطالبة بمنح الرئيس الاميركي الحالي جائزة نوبل للسلام، كما جاء في تصريح رئيس الوزراء الباكستاني في مؤتمر شرم الشيخ للسلام الأخير، في مصر.
ويمكن النظر إلى تبني الأمم المتحدة لقرار مجلس الامن، بأعضائه الخمسة عشر، ليس إلا تكرارا لقرار مجلس الأمن في عام 1947 بإقامة دولة إسرائيل، وتهليل أمينها العام الحالي ”غوتيرش“ ليس إلا تبني للمنهج الاستعماري القديم والسماح للقوى العظمى بممارسة شرعية انتداب على غزة، كما جاء في مقال في موقع ”مونديو وايز“ العالمي، للحقوقي الاميركي ”جريك موكيبر" المتخصص في قوانين وسياسة وتطبيقات حقوق الإنسان الدولية في الأمم المتحدة منذ عام 1992 وحتى إعلانه استقالته في أكتوبر عام 2023، فقط متعمدا أن تكون قبل أربعة ايام من حقه في التقاعد، وموجها رسالة لرئيس مفوضية حقوق الانسان في الأمم المتحدة ”فولكر تورك“ محذرا فيها من سياسة ونهج الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي ترقى إلى حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل، وهذا ما أثبته سير الأحداث خلال العامين اللاحقين. ورغم أن العديد من وسائل الإعلام تناولت استقالة هذا الحقوقي المرموق والمعروف بمواقفه الداعمة لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، إلا أن وسائل الإعلام الرسمية لم تعر أهمية لهذه الاستقالة، خشية من التطرق لأسبابها التي يمكن لها أن تثير التساؤلات آنذاك عن مغزى شن إسرائيل العدوان المتوحش على الشعب الفلسطيني وأهداف هذا العدوان على غزة، والتي لم يتوان القادة الاسرائيليون عن إعلانها والتبجح بها. ولم تنل هذه الحرب غزة وحدها فحسب، بل تعدتها لتشمل الضفة الغربية أيضا والفلسطينيين جميعا، بمن فيهم ما يطلق عليهم ”عرب الـ 48“، عندما ضيق وزير الأمن الاسرائيلي المتطرف والمتهم بالارهاب في إسرائيل ”ايتمار بن غفير“ الخناق عليهم واعتبر أي تصريح، حتى وان كان تعليقا عابرا في وسائل التواصل الاجتماعي، مثل منصة اكس أو تيك توك، يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني أو ينتقد السياسة الإسرائيلية جريمة يعاقب عليها كاتبها أو الناطق بها.
إن قرار مجلس الأمن، بموافقة ساحقة لــ 13 نعم وامتناع 2، وعدم رفض أية دولة له، والتطبيل له من قبل الأوساط الدولية بما في ذلك السلطة الفلسطينية والدول العربية والاسلامية، جاء بمثابة عقاب للناجين من حرب الإبادة ووضعهم تحت انتداب استعماري بقيادة الولايات المتحدة. وفي ذات الوقت يحمي مرتكبي هذه الجرائم وعلى رأسها إسرائيل والدول التي ساعدتها وساندتها في عدوانها خلال العامين المنصرمين، ضاربا بعرض الحائط حقوق الشعوب في الاستقلال من الاحتلال ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، حيث يعطي البيان إسرائيل الحق في التدخل في آليات تطبيق وقف الحرب، والانسحاب من الأراضي المحتلة وتحديد الدول المشاركة في القوات الدولية لحفظ السلام في غزة، بينما ينتزع هذا القرار أية حقوق للفلسطينيين للمشاركة في صنع القرار أو التدخل في آليات إيقاف الحرب. وبذا يصبح مجلس الأمن، بكافة أعضائه، مشاركا في استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية وحق الانتداب الأميركي، بالتشاور مع إسرائيل، على الشعب الفلسطيني، رغم رفض كافة الفصائل الفلسطينية المسلحة وغير المسلحة والمنظمات الحقوقية والانسانية لهذا القرار، متذرعين بموافقة السلطة الفلسطينية التي لا تمثل الشعب الفلسطيني، بل تعتبر إحدى أذرع الاحتلال والقمع للشعب الفلسطيني.
التوافقات العالمية في مجلس الأمن
إن حققنا في قرار مجلس الأمن وأسباب موافقة الأعضاء الدائمة وغير الدائمة فيه، نرى أنه من الطبيعي للولايات المتحدة أن توافق عليه، وذلك لأنها الدولة التي صاغت هذا القرار، بالتشاور مع إسرائيل كما صرح المسؤولون الإسرائيليون. أما بريطانيا وفرنسا، فإنهما دولتان حليفتان لإسرائيل، وقد ساعدتا إسرائيل في عدوانها على غزة، إن كان ذلك عسكريا أو استخباراتيا أو سياسيا في المحافل الدولية، ولذا فالقرار جاء لصالح هاتين الدولتين ليحميهما من أية ملاحقة قانونية لاحقة. أما من ناحية روسيا، فإنها، وكما يبدو قد حصلت على تعهدات أميركية لإيقاف الحرب في أوكرانيا لصالحها، حيث صرح البيت الأبيض بعد يوم من إصدار قرار مجلس الأمن، بإرسال مقترح لإيقاف الحرب، والذي يتضمن إعطاء روسيا الحق في المناطق الأوكرانية التي احتلتها منذ قيام الحرب قبل ما يقارب الأربع سنوات، وعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو وضمان تنصلها من المحاسبة مما ارتكبته خلال الحرب مع أوكرانيا. فلم لا توافق روسيا على القرار الأميركي؟ ولكن لكي تبقي على علاقاتها الحسنة مع الدول العربية، فإنها آثرت عدم التصويت، مما يعطي بالضرورة الموافقة على القرار. وبالنسبة للصين، فقد شهدنا، وعلى غفلة، تحسن الخطاب الاميركي ضد الصين والتصريح بتحسين العلاقات بين هذين البلدين وتعديل شروط تأشيرات الدخول للولايات المتحدة لتشمل 600 ألف صيني من الطلبة وذوي الخبرات للعمل في الولايات المتحدة. أما بالنسبة للأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، فقد مارست البعثة الأميركية في الأمم المتحدة، وسفيرها خطابات تهديد واضحة إن لم توافق الدول الاعضاء على المقترح الأميركي، وأن لا طريق للأمريكان وإسرائيل إلا الرجوع إلى الحرب. أي فتح ”ابواب الجحيم“ التي كررها الرئيس الأميركي، والاستمرار في الإبادة. أما إن تمت الموافقة على هذا المقترح، فسنضمن للفلسطينيين توقف القصف الإسرائيلي على ما تبقى منهم ومن مدنهم، وسيحصلون على بعض المساعدات الإنسانية، التي لا تزال تحت الوصاية الإسرائيلية، فهي تسيطر على نوعية هذه المساعدات وحجمها وكيفية دخولها. كذلك نرى أن منظمة الاغاثة الدولية ”الاونروا“ التابعة للامم المتحدة قد أزيحت من معادلة تنظيم المساعدات، تلك المنظمة التي قامت على توفير وإمداد اللاجئين الفلسطينيين منذ قيام دولة الاحتلال وحتى الآن بسبل الحياة.
في الخلاصة، فإن هذا المجلس لم يعد يشكل ضمانا للعدالة وحماية شعوب العالم من استهتار الأنظمة المستبدة التي تتلاعب بمصائر الشعوب الضعيفة والتي لا تمتلك سلطات تحميها من انتهاكات الدول القوية، بل امتثل هذا المجلس لقانون الغاب والانصياع للقوي.
الحلول المتاحة للمرحلة الراهنة
إن قرار مجلس الأمن الأخير لا يشكل نكبة جديدة للشعب الفلسطيني فقط، وإنما تهديدا لجميع شعوب دول العالم غير المهيمنة، لأن قرارات هذا المجلس يمكن لها أن تكون خارجة عن القانون، لما يتمتع به المجلس من سلطة تخوله التدخل في شؤون أية دولة وبالقوة العسكرية. أما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي نحن بصددها في هذا المقال، فإن ”عاصفة التواطؤ“ كما أسماها الحقوقي العالمي ”جريك موكيبر“ من قبل أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين مع المقترح الأميركي ولصالح إسرائيل، يمكن لها أن تخمد، أو يمكن لمقترح ترامب ألا يحقق شروطه، خاصة فيما يتعلق بإعادة الإعمار، حيث لا يمكن إعادة إعمار دون حكومة وأمن على الأرض، وهذا ما ستضطلع به القوات الدولية. ولكن ولحد الآن لم تذكر من هي الدول التي ستشارك في هذه القوات، وحركة حماس الآن هي التي تسيطر على الأمن الداخلي في الأراضي التي تركتها إسرائيل. ولذا سيكون الانتقال إلى المرحلة الثانية للمقترح غير واقعي. كذلك يمكن الوقوف أمام قرار مجلس الأمن وإفشاله بتطبيق قوانين الامم المتحدة العادلة، وبالاخص في حدود صلاحيات الجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة، والتي يحق لها أن تعتمد اللوائح التي تقر حق الدفاع لأي شعب مُحتَل، بالطرق السلمية أو بالعنف واستخدام السلاح، مما يمنع أية قوة من تجريد الشعب الفلسطيني من سلاحه ما دام الاحتلال مستمرا، علما أن المحكمة الدولية لم تقرر أن اسرائيل دولة احتلال فقط، وإنما دولة تمارس الفصل العنصري أيضا. ولذا يحق للشعب الفلسطيني الدفاع عن نفسه وأرضه ضد هذا الاحتلال وممارساته العنصرية.
وفي صدد السلطة المتاحة للأمم المتحدة، فإن الجمعية العامة مارست دورها الصحيح عندما استندت إلى قرار محكمة العدل الدولية في احتمالية ارتكاب إسرائيل جريمة ”إبادة جماعية“ في غزة، ومنحت في أكتوبر 2024 إسرائيل مهلة عام لكي تثبت إسرائيل عدم قيامها بمثل هذه الجريمة. ولذا تزامن مقترح الرئيس الأميركي مع الموعد المحدد من قبل المحكمة الدولية لينقذ إسرائيل من هذا المأزق. كما نود التذكير بمقال نشرناه سابقا في هذه الصحيفة، أن هناك قرار ”الاتحاد من اجل السلام“، الفقرة 377، خامسا (أ) البالغ الاهمية. وهذه آلية منحت للجمعية العامة للأمم المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة، ولكن هذا القرار غير شائع ولا يذكّر به لأسباب تتعلق بالتحديد بالأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، الذين لا يفضلون التعريف به، وذلك لأنه يحد من صلاحياتهم. وقد اعتمد هذا القرار عام 1950 خلال النزاع الكوري، وينص على ”أنه في حال عجز مجلس الامن عن اتخاذ إجراء في موقف ما بسبب استخدام أحد أعضائه الدائمين لحق الفيتو، فان الجمعية العامة، وهي الهيئة الاكثر ديمقراطية في الامم المتحدة والمكونة اليوم من 193 دولة، لكل منها صوت واحد، وليس لاية منها حق الفيتو، تكون مخوّلة باتخاذ إجراءات لتجاوز الجمود في مجلس الأمن“. وهذه السلطة الممنوحة للجمعية العامة لا تتطلب سوى أغلبية الثلثين. وقد أظهر العامان المنصرمان أن القرارات المتعلقة بفلسطين قد تم اعتمادها جميعا بأكثر من أغلبية الثلثين في الجمعية العامة. وبموجب هذا القرار، يمكن للجمعية العامة اتخاذ تدابير ملموسة لمحاسبة اسرائيل والمساعدة في وقف الإبادة الجماعية. وهنا يمكن للجمعية العامة أن تقرر 1) عدم قبول أوراق اعتماد اسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما حدث مع جنوب افريقيا في ثمانينات القرن الماضي، عندما عرقل مجلس الأمن القرار. 2) يحق للجمعية العامة بأغلبيتها أن تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائيل بما فيها الحظر العسكري. صحيح أنها لا تستطيع فرض هذه العقوبات بذاتها، ولكن يمكن منح هذه العقوبات إطارا متعدد الأطراف لتطبيقها ومراقبتها وتوسيعها حسب الحاجة. 3) يمكن للجمعية العامة إنشاء محكمة جنائية، غير المحكمة الجنائية لمحاسبة الجناة. 4) يمكن إعادة تنشيط آليات لمناهضة الفصل العنصري للتعامل مع سياسات الفصل العنصري الإسرائيلي، تلك الآليات التي كان لها الدور الفعال في ممارسة الضغط السياسي على جنوب إفريقيا في ثمانينات القرن الماضي. 5) والأهم من كل ذلك، يمكن للجمعية العامة تفويض قوة حماية متعددة الجنسيات، تابعة للامم المتحدة، للانتشار في الأراضي الفلسطينية، في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، من أجل حماية المدنيين من الإبادة الجماعية والتهجير وتأمين المساعدات الإنسانية والحفاظ على أدلة جرائم الحرب الإسرائيلية، والبدء في عملية إعادة الإعمار والتعافي. وهذا ليس غريبا على الأمم المتحدة، فقد فوضّت الجمعية العامة أثناء حرب السويس عام 1956 قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة، التي انتشرت في سيناء ضد رغبة عضوين دائمين في مجلس الامن، فرنسا والمملكة المتحدة، وضد رغبة إسرائيل، على الرغم من عدم توفر أي قرار من محكمة العدل الدولية ينص على إبادة جماعية أو احتمالها حينذاك!
في الختام، ان ما تعرض الشعب الفلسطيني على مدى قرن من الزمن، وما شهدناه خلال العامين المنصرمين، لا يمكن تجاوزه بإحلال مُحتل جديد يستشير في قراراته المُحتل السابق، ولا يمكن تجاوزه بتجريد الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم، حتى وإن كانت فصائل المقاومة الفلسطينية غير متحدة، ولا تمتلك حق التمثيل لشعبها. وهنا نذكر، بأن تاريخ نضال الشعوب يشهد عدم وجود اتحاد أو وفاق بين قوى المقاومة للشعوب المحتلة، فلم تكن المقاومة في فيتنام متوحدة، وكذلك هو الأمر في جنوب افريقيا، وحتى في الدول العربية تحت الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، بل كانت هناك أحزاب وحركات تنتمي لأيديولوجيات مختلفة، وتدعمها قوى داخلية وخارجية مختلفة. أما بالنسبة للشعب الفلسطيني، فقد توحدت فصائل المقاومة اليوم جميعها باعترافها بشرعية ممثلها الوحيد، منظمة التحرير الفلسطينية، وبرفضها لقرار مجلس الأمن الأخير. وبذا لم يبق لها إلا إعلان إسقاط السلطة الفلسطينية ونزع الشرعية عن رئيسها ”محمود عباس“ غير الشرعي. فهذه السلطة لم تُنصَب إلا لحماية أمن إسرائيل بدلا من حماية أمن الفلسطينيين. ولذا نرى الأميركان والأوروبيون يحرصون على بقاء هذه السلطة، لأنها أفضل ذريعة للانتداب، لأنها فشلت في إنشاء مؤسسات الحكم، ويُطلب منها اليوم إحراء التصحيحات اللازمة، أي التي توافق عليها إسرائيل، لكي تكون مؤهلة للحكم. وهذا بالضبط ما مارسه الاستعمار في انتدابه للشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الأولى. في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في اغتيال واعتقال مدى الحياة للقادة الفلسطينيين الذين يحظون بإجماع فلسطيني وتتجمع حوله أراء الفصائل الفلسطينية وأصوات الشعب الفلسطيني. بذلك إما رفض السلطة الفلسطينية الحالية والاتفاق على ممثل جديد، وإما استمرار مأساة الشعب الفلسطيني ومعاناته تحت ظل الاحتلال المزدوج والعنصرية المضاعفة.
-------------------------------
بقلم: د. سليم العبدلي






