08 - 12 - 2025

التراب الحى

التراب الحى

لا يزال الإنسان منذ قديم مجبولًا على حب العلو والرفعة، ومفارقة تراب النشأة، فتراه فى عهده الأول ماشيًا على قدميه يباشر بهما وجه الأرض، ثم يصطفى بعض الدواب لحمله عن الأرض، ثم تُصنع له السيارة والقطار، فيعلو بهما سرعة ووجاهة وراحة عما كان قبلهما، ثم لم يزل الإنسان يعلو حتى فارق وجه الأرض بجملته وركب متون السحاب، ثم لم يزل علوه يتمادى ويتمادى حتى تقاصر دونه غلاف الأرض جميعًا ومضى فى غيابات الفضاء السحيق!

ولكن الإنسان فى ذلك كله كان كلما علا وارتفع ورقى أسباب السماء وجد الجاذبية لا تزال تجذبه جذبًا إلى أديم التراب، لكنها ليست جاذبية نيوتن التى أحسن ابن آدم مغالبتها حتى غلبها، بل انجذاب الإلف إلى إلفه، وحنين الفرع إلى أصله، وشوق الوليد إلى أمه، فترى هذا الإنسان لا يزال قلِقًا مستوحشًا وهو مقيم فى الطابق المائة، ويشرف كل نهار على الدنيا من علٍ! ولا تزال تجده لا يسيغ طعامه المطهو على أحدث المواقد! ولا يزال الملال رفيقه وإن اتكأ على أريكته يرفه عن نفسه بأحدث الألعاب والأفلام! وهو كلما بالغ فى علوِّه وترفه ازداد وحشة وقلقًا وملالًا، فنفسه هناك لا تطمئن وهى معلقة فى الجو، منقطعة عن مادتها، بل لا تزال تنازع صاحبها وتسوقه سوقًا حتى يهجر علياءه، وتعود به إلى الرحم الأول الذى منه خرج!

ولو أنك نظرت فى سيرة أثرياء عصرنا، فستجد كل واحد منهم لا يطيق أن يبقى حبيس أبراجه وطائراته ويخوته زمنًا طويلًا، بل لابد  له بين الحين والحين أن يفارق ذلك كله ويعود معانقًا أمه الأرض، فترى لأحدهم بيتًا ريفيًّا بعيدًا عن صخب الحضارة وأهلها، يغشاه فى عطلاته فيستريح به من عناء رفاهته، وتجد ذلك الثرى يفارق ثرائه وترفه عند منتجع فى جزيرة نائية، فيخلع نعليه على شاطئها وينتعل رملتها، ويرتدى موج بحرها، وانظر هذا الأمير تراه يفارق قصوره ميممًا وجهه شطر (البَر) فيخيم، ويصيد، ويجلس إلى أصحابه حول النار، يستمع الأهازيج، ثم يبيت ملصقًا جنبه بأديم الصحراء ويحيا حياة جده الأول، ولا يطلب من دنياه غير هذا!

وعند أهل القصور تجد المطابخ الفسيحة، والأفران الضخام، والمواقد العظام، والمبردات العامرة بصنوف الطعام، شرقيِّه وغربيِّه، وتجد عندهم أكداس الفاكهة تُحمل إليهم فى أوانها وفى غير أوانها، فتعاف نفوسهم ذلك كله، ولا تجد شهوتها إلا فى قطعة لحم يُلقَى فى حفرة صافية الجمرات، ثم يُطمر بتراب الأرض، ويختم عليه بطينها، ثم يترك يومًا تامًّا، فينضج على مهل وأناة، ثم يستخرج فيحمل إلى موائد الملوك شهيًّا طيبًا مريئًا!

وأعذب الماء عند الناس ليس ذاك الذى يبردونه فى المبردات، بل ذاك الذى يأتيهم من جوف الأرض باردًا عذبًا سلسالًا، فإن تعذر عليهم إتيان الينابيع والعيون وجدتهم يأتون بشىء من جنس طين الأرض مثل القلال والجرار فيبردون فيها الماء، ويجدونه أمرأ وأبرد من ماء الثلاجات والمجمدات.

والذين خبروا بيوت الطين إذا تطاول بنيانهم، وتوسعوا فى المرافق والرياش تراهم لا يزالون يحنون إلى طينها ومدرها، ويجدونها أبرد وأروح وأصح للأبدان من هواء المكيفات، بل إن بعض المنتجعات تجعل غرفها من طين على هيئة بيوت الأسلاف، فيقيم فيها السائح أيامًا وليالى هانئًا قرير العين، لا يشتكى حرًّا ولا قرًّا.

فاذكر أيها الآدمى، وأنت فى عليائك وخيلائك أنك لن تجد أنسك وطمأنينة قلبك إلا فى كنف الرحم الأولى.  
------------------------------------
بقلم: 
محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

كشف حساب وزير التعليم