تشهد العلاقات بين الصين واليابان تصاعدًا ملحوظًا في التوتر خلال الأشهر الأخيرة، خصوصًا على خلفيتين رئيسيتين: قضية تايوان و"النزاع على جزر سينكاكو / دياويو".
هذه القضايا، التي لطالما كانت محورية في السياسة الإقليمية، أصبحت اليوم أكثر حساسية بسبب تغير مواقف طوكيو والتصعيد البحري من بكين.
تايوان والتحول في موقف اليابان
في نوفمبر 2025، أثارت تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي رد فعل عنيف من الصين، عندما قالت في البرلمان إن هجومًا صينيًا مفترضًا على تايوان يمكن أن يشكل تهديدًا وجوديًا لليابان، مبرّرة بذلك احتمال تدخل عسكري ياباني.
هذه التصريحات تمثل خروجًا واضحًا عن سياسة الغموض الاستراتيجي التي تبنتها اليابان سابقًا تجاه تايوان، وتعبر عن تحول استراتيجي في السياسات الأمنية اليابانية.
الصين من جهتها اعتبرت هذه المواقف استفزازًا، ودعت إلى تراجعها، محذرة من عواقب إجراءات مضادة كبيرة.
النزاع على جزر سينكاكو / دياويو
جزر سينكاكو (تسميها اليابان) أو دياويو (تسميها الصين) هي نقطة توتر دائم بين الطرفين.
للمسألة أهمية استراتيجية، اقتصادية وسياسية، لأن الجزر تقع في بحر الصين الشرقي وبالقرب من خطوط ملاحية مهمة وموارد بحرية محتملة.
وفق تقرير وزارة الخارجية اليابانية، فإن خفر السواحل الصيني زاد من أنشطته في هذه المنطقة، مع تسجيل عشرات من حالات التعدي على المياه التي تعتبرها اليابان إقليمية.
ففي 16 نوفمبر 2025، أبحرت مجموعة من سفن خفر السواحل الصينية حول الجزر في ما وصفته بكين بأنه “دورية لفرض الحقوق”.
رداً على ذلك استنكرت طوكيو هذه التحركات واعتبرتها انتهاكًا لإرادتها السيادية، فيما تصاعدت اللهجة الدبلوماسية بين البلدين.
الأبعاد الأمنية والعسكرية
التصعيد الحالي بين بكين وطوكيو له بعد أمني ومراهنات استراتيجية، الضغط البحري الصيني، استخدام خفر السواحل الصيني لسفن مسلحة لقيام دوريات في المياه المتنازع عليها حول سينكاكو، يهدف إلى ترسيخ وجود بكين وفرض حقائق ميدانية.
نشاط جوي وبحري مكثف، تقرير وزارة الخارجية اليابانية (الدبلوماسي الأزرق) يشير إلى تعديات متكررة من السفن والطائرات الصينية في المناطق المحيطة بجزر سينكاكو، بما في ذلك دخول جوي وبحري مستمر.
تعزيز قوات خفر السواحل اليابانية، ردًّا على هذا التحدي، تعمل اليابان على تعزيز قدرات حرسها الساحلي، بما في ذلك بناء قواعد إضافية وتوسيع عدد الزوارق والطائرات المخصصة للدوريات بالقرب من الجزر.
إمكانية تدخل عسكري ياباني حول تايوان، تصريحات تاكايتشي وصفت بأنها تؤسس لتبرير تدخل ياباني إذا اعتبرت أن هجومًا على تايوان يهدد أمن اليابان، وهي نقطة قد ترفع من مخاطر المواجهة العسكرية في مضيق تايوان.
البعد الدبلوماسي والاقتصادي
النزاع ليس مجرد قضية عسكرية، بل امتد إلى ساحات الدبلوماسية والاقتصاد.
ردت الصين بحذر دبلوماسي واقتصادي على تصريحات اليابان حول تايوان، حيث نصحت مواطنيها بعدم السفر إلى اليابان، وأتاح بعض شركات الطيران الصينية تعديل أو استرداد تذاكر الرحلات إلى اليابان.
هذا التحذير يمثل ضغطًا مباشرًا على السياحة اليابانية، خاصة وأن السياح الصينيين يشكّلون نسبة كبيرة من الزوار إلى اليابان.
كما أن التوترات قد تترك أثرًا في أسواق المال، بحسب تقارير عن تراجع في أسهم بعض الشركات اليابانية المرتبطة بسياحة أو استثمار صيني.
احتجاجات رسمية على الأبحاث البحرية
في سبتمبر 2025، احتجّت اليابان رسميًا على أنشطة أبحاث بحرية صينية داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة. وفق وزارة حكومة اليابان، رصد خفر السواحل الياباني سفينة أبحاث صينية تمدّ سلكًا في المياه الاقتصادية اليابانية، مما أثار رفضًا رسميًا من طوكيو.
هذه الخطوة تعكس استراتيجية بكين للضغط من خلال الأنشطة البحرية غير التقليدية، واستخدام البحث العلمي كوسيلة لفرض الوجود في المناطق المتنازع عليها.
أزمة دبلوماسية حادة
بجانب السفن والدوريات، فُتحت جبهة دبلوماسية بين البلدين، استدعاء متبادل للسفراء.
فالصين استدعت السفير الياباني عقب تصريحات تاكايتشي، وطوكيو بدورها نددت بتصريحات مسؤول صيني في أوساكا.
وزارة الدفاع الصينية أعلنت أن أي تدخل عسكري ياباني في مضيق تايوان قد يؤدي إلى "هزيمة ساحقة".
تبادل رسائل تحذير حادة عبر وسائل الإعلام الرسمية والدولية، ما يزيد من حدة التصعيد ويُقلّل من مساحة التهدئة.
التحليل السياسي والاستراتيجي
لفهم دلالات هذا التصعيد بين الصين واليابان، من المفيد تحليل مجموعة من العوامل التي تساهم في هذا التوتر.
يري خبراء، أن الصين تسعى منذ فترة لتعزيز وجودها البحري في بحر الصين الشرقي، سواء من الناحية السيادية أو الملاحية، من خلال خفر السواحل القوي، تسعى بكين إلى تحقيق وجود دائم في مناطق خلافية دون اللجوء إلى القتال العلني.
من جهة أخرى، اليابان ترى في هذا التوجه تهديدًا مباشرًا لأمنها البحري، خصوصًا مع تعاظم دور تايوان كقضية محورية في الاستراتيجية الصينية.
ويشير محللون إلي أن تصريحات تاكايتشي تعكس تحولًا في رؤية طوكيو الأمنية، وربما محاولة لإعادة تعريف "مصلحة وجوديّة" يابانية في مضيق تايوان.
المخاطر الأمنية
ويري مراقبون أن هذا النوع من التصعيد البحري يحمل مخاطر كبيرة، دوريات خفر السواحل وبروز التهديد الجوي يمكن أن يتطوّرا إلى حوادث كبرى، خاصة إذا ترافقت مع تدخل عسكري أو خطأ في التقدير. وجود السفن والطائرات في مناطق متنازع عليها يُشكّل بطبيعته نقطة توتر عالية، والخطأ هنا قد يؤدي إلى أزمة حقيقية.
التكلفة الاقتصادية والدبلوماسية
التحذير من السفر الصيني إلى اليابان وضعّ ضغطًا اقتصاديًا على قطاعات مثل السياحة والتعليم (الطلاب الصينيون في اليابان).
كما أن النزاع البحري والبحثي قد يشكل عائقًا أمام التعاون التقليدي (الاقتصادي، العلمي) بين الطرفين.
دبلوماسيًا، المواجهة قد تضر بعلاقات ثنائية واسعة تشمل التجارة والاستثمار، لكنها في الوقت نفسه تُظهر أن الصين مستعدة لدفع ثمن اقتصادي مقابل ما تعتبره حقوقًا سيادية.
رسالة إلى الشركاء الإقليميين
من منظور بكين، هذه التحركات تُرسل رسالة قوية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بأن الصين لا تتردد في مواجهة من يهدد مصالحها في محيطها.
أما من وجهة نظر اليابان، فهذه الأزمة تعتبر اختبارًا لقدرتها على الدفاع عن مصالحها بدون الدخول في نزاع مباشر مع قوة كبرى.
كما أن تحالفها مع الولايات المتحدة (ضمن إطار التحالف الأمني) قد يُختبر في حال تصاعدت الأوضاع إلى مواجهة أكثر خطورة.
السيناريوهات المحتملة
ويشير مراقبون إلي أن اعتمادًا على الاتجاه الحالي، يمكن تصور عدد من السيناريوهات التي قد ترسم مستقبل العلاقات بين الصين واليابان.
التهدئة الدبلوماسية
قد تشهد الأشهر المقبلة محاولات لخفض التصعيد عبر قنوات دبلوماسية: تبادل رسائل، وساطة من طرف ثالث، أو مفاوضات خلف الكواليس.
في هذا السيناريو، قد توافق طوكيو على تليين بعض تصريحاتها، بينما تعدّ بكين بخفض الضغط البحري مقابل ضمانات معينة.
تصعيد بحري محدود
من المتوقع أن تستمر الدوريات الصينية في مياه الجزر المتنازع عليها، مع احتمال وقوع احتكاكات محدودة مع دوريات خفر السواحل اليابانية. ورغم أن تطور هذه الحوادث قد يفتح الباب أمام استخدام الطائرات أو الصواريخ، فإن المرجح أن تبقى المواجهات محصورة ضمن نطاق ضيق تفادياً لانزلاق الوضع إلى حرب شاملة.
أزمة أوسع تشمل تايوان
إذا واصلت طوكيو تأكيد التزامها بالدفاع عن تايوان في حال اعتداء صيني، قد تشهد المنطقة مواجهة استراتيجية حقيقية.
في هذه الحالة، يمكن أن تدخل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى كطرف فاعل في النزاع، مما يحوّله إلى أزمة إقليمية أو حتى دولية.
تحول استراتيجي في التحالفات
اليابان قد تعزّز تعاونها مع الولايات المتحدة بشكل أكبر وتوسّع التنسيق الأمني لمواجهة الضغط الصيني.
بالمقابل، قد تسعى الصين إلى تحالفات أكثر عمقًا مع دول محورية في آسيا لتحصين نفوذها البحري واستراتيجية الدفاع.
في المجمل فإن التوتر الحالي بين الصين واليابان هو أحد أبرز التحديات الأمنية والدبلوماسية في شرق آسيا اليوم، ما بدأ كتساؤل حول تصريحات سياسية، تحوّل إلى مواجهة بحيرة في المياه المحيطة بجزر سنكاكو، مع تحذيرات بوجود تبعات اقتصادية ودبلوماسية.
الصين، من جانبها، تستخدم خفر السواحل كأداة رئيسية لتعزيز مطالبها الإقليمية، بينما تحاول اليابان إعادة تعريف معيّنة لاستراتيجيتها الأمنية من خلال مواقف علنية أكثر صراحة تجاه تايوان. في هذه المعادلة، كل خطوة محسوبة، لكن الأخطاء قد تكون باهظة الثمن.
فالمستقبل مفتوح على عدة إحتمالات، والنتيجة تعتمد إلى حد كبير على مدى قدرة الطرفين على إدارة التصعيد، أو على استعدادهم لتحمّل تكاليف الصراع.





