"للكلام قوة
كلمه ترفعك السما
وكلام يهبدك فى سابع أرض"
هذه الرسالة الأولى التى يؤكد عليها الفيلم المتميز “دخل الربيع يضحك” لمخرجته “نهى عادل” فى تجربتها الإخراجية الأولى مع الفيلم الروائى الطويل. الفيلم مثل مصر فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الـ45 وحصد أربع جوائز: جائزة الاتحاد الدولي للنقاد فيبريسي، وجائزة صلاح أبو سيف كأفضل مخرجة لـ نهى عادل، وجائزة خاصة للتمثيل تسلمتها الفنانة رحاب عنان، وجائزة المسابقة الدولية أحسن فيلم مناصفة.
بما أننا أمام فيلم مختلف وكاسر للقواعد النمطية بداية من الحوار وطريقه السرد والحكى وانتهاء بالتصوير، فأتى الفيلم بهذا التفرد.. فسيأتى النقد مختلفا هو الآخر بدوره، كما أدهشتنا نهى عادل بمشاهد قصيرة نوعا ما.. ولكنها مكثفة بل غاية فى التكثيف.. سيكون التعليق النقدى أيضا بنفس النهج: من جمل مختصرة قصيرة تواكب إيقاع الفيلم.
قدمت نهى عادل - مع فريق الوجوه النسائية الجديدة الموهوبات بالفطرة - وجبه نسائية دسمة بمذاق أصيل مختلف تماما عن المألوف -، أربع حكايات منفصلة فى مشاهد قصيرة مكثفة، حافظت في جميعها على التوتر التصاعدى، فالمشاهد كلها تبدأ هادئة ثم تتصاعد حدتها تدريجيا، اختارت نهى عادل فى الأربع حكايات أربعة أسماء شهورمن السنة تمثل فصل الربيع حيث الوتيرة التصاعدية هى السمة السائدة، فالبداية دوما هادئة مبهجة، ولكنها البهجة التى تسبق العاصفة، هدوء فتصعيد ، هدوء فتصعيد، فى تسارع يلهث معه المشاهد، تنقلب الأجواء فجأة كما ينقلب الجو من مشمس إلى عاصف بسبب القاسم المشترك فى الحواديت "سوء التفاهم الصغير" الذى يفجر بركان حقيقة كبير فى وجه الجميع.
اختيار المناسبات والمشاهد كلها بتفاصيلها
Very feminine
كوافير شعبى
استعداد عروس لفرحها
خروجة لقعدة ستات يعرفن بسيدات المجتمع.
عبقرية التأليف والإخراج أتت بالقدرة الإخراجية على مُعايشتنا قصص حياة كاملة لأكثر من أسرة من خلال مشهد حياتى واحد، رسائل ضمنية تمس النساء، التفاصيل والأماكن كلها حميمية (مننا وبتاعتنا).. بلكونة فى حى المعادى ، كافيه يجتمع فيه سيدات المجتمع، كوافير شعبى ضيق، ثم غرفه عروس تستعد لفرحها.
وكأن المؤلفة والمخرجة تريد أن تقول أن ما تشاهدونه لا يقتصر على فئة واحدة أو طبقة اجتماعية معينة، بل ستجده بين كل النساء بمختلف طبقاتهن وخلفياتهن الثقافية.
أتت البهجة كوجه أول والانفجار كوجه ثان، كل الجلسات اللى بدأت حلوة وبدأت بضحكات عالية بأغانى محببة وبذبذبات مفرحة، ولكنها البهجة التى تسبق العاصفة، تنقلب الجلسات الحريمى رأسا على عقب فى تصاعد مدهش وموتر، وتتفجر كل جلسة بكلام كالحجارة بل أشد قسوة.
انَفجارات داخلية، انهيارات نفسية، وحرب كلامية، وتراشق حريمى بالألسنة، تنتهى بالتجريح و.. السباب.. بتبادل الإتهامات، بتفاذف السيئات، معايرات، تنمر، ثم انهيارات.. يعقبها ندم.. فدموع. نفس التدرج فى كل المشاهد بنفس التأثير المدهش على المشاهد فيبتهج معهن ويغضب معهن وقد يبكى معهن فى النهاية.
صور مكثفة، حوار متسارع، جمل قصيرة بليغة.. أصوات تتقاطع فلا تلتقط الأذن جملا مسترسلة واضحة.. المشاهد مليئة بالحياة، مليئة بـ الـ "نحن" فغالبا بشكل أو بآخر، كل واحدة سترى نفسها على الشاشة وبين البطلات فى لمحة او اتنتين من حياتها. نفس البهجة والحالة التى تولدت عند عرض مسلسل "سابع جار" وفيلم "الهوى سلطان" والقاسم المشترك فى الثلاثة أعمال وهى كلمه السر "ناس شبهنا".
الطبيعية الخالصة أتت بالإبداع، والإبداع جاء من الإغراق فى الطبيعية وكسرالمألوف ، وكأن المخرجة أمسكت كاميرتها ودارت بين عده أماكن أخدت لقطات من الأمكنة وناسها وحوارتها وملابسها وحواديتها وإنفعالاتها ولم تجر لها عملية مونتاج واحدة.
كل حاجة أصيلة، كل حاجة حقيقية .. الحوار، الجمل، الملابس والديكور، لون الروج وطريقة تناول الطعام وارتباك الأيدى ولغة الجسد، دموع الندم التى تعقب كل انفجار.
المشاهد كلها تبدأ بثرثرة، صخب، يتوتر المشاهد من المشاجرات، الكل يدوس على الجرح، ينكأ فى جروح الماضى، يكشف المستور، يصدم الجميع، يحتدم الكلام والأجواء، كشف أسرار أو بالأحرى فضايح ، نغضب من شده التراشق، ولكننا نبكى مع بكاء كل بطله انفجر بركانها فَى وجهنا.
وكأن الفيلم يؤكد على فكرة أن خلف كل الوجوه المتجملة بالمساحيق وخلف كل الكواليس وخلف كل الصداقات هناك حكايات وقصص وحواديت لم تروَ.. صادمة.. يجوز، ولكنها حقيقية.

تعليقات على الحكايات:
الحكاية الأولى: بلكونة المعادى والصدمة الهادئة
البدايه هادئة جدا، صوت عبد الحليم فى الخلفية، عصافير، ورد، فاكهة، وناس عاديين.. عاديين جدا يتجمعون فى بلكونة في أحد أحياء المعادى القديمة
حوار غارق فى الطبيعية، التمثيل اللَى مش تمثيل، الحوار واقعى جدا طبيعي جدا، يحدث فى كل بناية وبين كل أُسرة
يوم عيد ميلاد عبد الحليم وتعلق الابنة على أنه نفس تاريخ وفاة سعاد حسنى.. الأم تعلق على حياتها مع ابنتها بجملة: هوه أنا بشوفك إحنا حياتنا، "هالو.... جود باي"، مفيش تواصل حقيقى بينهم، الخلفيات الموسيقية لعبت دورا ليس بالقليل فى ترسيم الحالة فى الوجدان ، ورده ، صباح ، رقة الموسيقى... ضحك...
الحوار يعلو مع رباعيات صلاح جاهين وبعدين ياخدنا لعبد الباسط حمودة... ضحكنا معهم وأحببناهم من أول مشهد.
ينتقل الحوارللحديث عن ليلى مراد، الرمزية والإسقاط بين اختيار شاى الربيع أم شاى العروسة؟ يدخل الأطفال إلى الجلسة، تحدثهم الأم بالانجليزية؟ يعلق شادى لماذا لا يتحدثون العربية؟
أربعتهم يجلسون علَى الطاولة فى مشهد حواري طويل، نتعرف على حياة الأسرتين، تنقلب الجلسة لشجار مغلف بالاتهامات ويحتدم الحوارعندما يطلب الابن يد الأم لأبيه الدكتور، تنقلب الجلسه رأسا على عقب، واختتمها الدكتور بجملة دلالية :“فعلا يا مدام شاى الربيع أحسن من شاي العروسة”، تذهب الكاميرا على ذبابه تعكر صفو جمال التورتة.
الحكاية الثانية - مطعم راق يتشح بالنميمة -:
حوار نسائى جدا فى تفاصيله على طاولة فى مطعم بحى راق من أحياء القاهرة، يدور الحوار حول عمليات التجميل بتفاصيلها، نميمة، تداول أخبار، تنمر، ثم “ربنا يسعدها.. وربنا يسهلها” .. أشهر جملتين يُختتم بهما حوارات النميمة النسائية
كثافه المشهد، سرعة تنقل الكاميرا بين الوجوه.. صاحبتها سرعه الحوار.. تعلو الأصوات وتتقاطع، ترصد الكاميرا لقطات “كلوز” والجمل المكثفة القصيرة لضمت ألف حكاية وحكاية، ثم سوء تفاهم ينتج عنه تصعيد وتفاقم للموقف وينتهى بدموع الندم.
الحكاية الثالثة - الكوافير.. مرآة العلاقات المتوترة
شريحة ثالثة من النساء، كوافير شعبى مزدحم.. زحمة، دوشة، مشهد مليء بالحوارات المتناثرة، بنصائح هنا ونصائح هناك.. جمل متناثرة مبتورة حول متى تعيش المرأة عمرها الحقيقى.
معظم أحاديث السيدات فَى الكوافيرات تدور حول العلاقة بالرجل.. وصفات.. ما هو اللون الأفضل؟ ثم يتصاعد التوتر ويحتدم الحوار، مين اللى سرق الخاتم السوليتير؟
الحكاية الرابعة - غرفة العروس وارتباك اليوم الذى لا ينسى:
لمة البنات المعروفة فى غرفة العروسة وهى تضع المكياج ليوم العمر، زغاريد.. ابتهاج.. نكات، و"أمورتي الحلوة بقت طعمة".. حوارات البنات الشهيرة فى اليوم ده.. تعلو الأصوات .. تفاصيل حول الألوان والمكياج والفساتين.
ثم حرب كلامية مرة أخرى، جدال.. فتراشق.. فتصعيد.. وفرق دفاع.. ثم انهيار.. فبكاء، فتعاطف.
ليست مبالغة أن نقول أن الفيلم مكتوب بسيناريو غير مكتوب، وتمثيل ليس بتمثيل، وتصوير ليس بتصوير، فالكاميرا تدور بسرعة، تدور بين وجوه النساء لرصدهن فقط. تكاد تجزم أن الحوار غير مكتوب مسبقا، وأنه وليد اللحظة والارتجال يسيطر على المشهد. والأغانى كانت خيطا يربط الحكايات.
"دخل الربيع يضحك" فيلم من النساء وإليهن، مطبوخ بيد المرأة وموجه للمرأة، مشاجرات نسائية أصيلة جدا، التفاصيل نسائية حقيقية جدا، الصناعة نسائية أصيله جدا.. فاخرة جدا، والزبائن نسوة يرون أنفسهن على الشاشة.
أُختتم بالاشارة لتاريخ عيد ميلاد صلاح جاهين، أبطال الحكاية الأولى يأخذون طرف الحوار مرة أخرى، حديث غاية فى اللطافة وغاية فى الطرافة، حديث لا ينقطع بينهم، خاص بهم..
الاهتمامات المشتركة، غناء.. فرح.. انبساط على قدهم وعلى قد ربيع عمرهم زى ما الفيلم عايز يقول.
صحيح أن الفيلم نسائي فى صناعته وروحه وحواراته ومشاهده، لكنه يتلامس بجانب كونه "قصة عن النساء"، لأن يكون فيلما عن هشاشة البشر، عن الصراعات الصغيرة التى تكشف دائمًا حقائق أكبر، عن الضحك الذى يخفى تحتَه وجعًا، وعن العلاقات التى تبدو بسيطة لكنها مليئة بما لم يُقل بعد، نهى عادل قدمت فيلما صادقا، حادا، عاريا من التجميل. فيلما يشبه الحياة أكثر مما يشبه السينما، وربما لهذا السبب لمس قلوب كثيرين.
وتُختتم المعزوفة النسائية الصاخبة بمزيكا تدغدغ الوجدان، تهديء من التوتر الذى يغلف الأجواء، ويأتى التتر بموسيقى عذبة متقاطعة بصوت صلاح جاهين
دخل الربيع يضحك لقاني حزين” ... نده الربيع على إسمي لم قلت مين
حط الربيع أزهاره جنبي وراح ... وإيش تعمل الأزهار للميتين
وبموسيقى تتر النهاية قد تُذرف دمعة لا تعرف لها سببا.
---------------------------------
بقلم: د. دينا عبدالرحمن






