الأنوثة ليست جسدا فحسب، بل هي قبل ذلك تجسد الحب المقدس والجمال والرقة والروح المهذبة والتعلق النبيل، فلو استطاع الرجل العبقري او غير العبقري، ان يعيش هذه المظاهر الإنسانية الأصيلة في رسالة او هواية، فانه قد يستطيع ان يستعيض بها عن المرأة، ولكن استعاضة الظمآن عن الماء القراح بمقطر الفواكهه وعصيرها.
"تحفة العروس"
ثمة احتفال وثمة زوجين يحتفلان، ثمة صورة تؤسس لفعل التلقي وتحول كل هذا الى رمز.
أمام معرض التشكيلي سامي البلشي تحقق الصورة حضورها الايقوني، وتبحث عن التحرر من سلطة التشخيص بمعناه التسجيلي الى مايتضمنه من محاكاة للأحداث، إنه فعل يحتمل التعبير ويؤاخي مابين السخرية اللاذعة، والحقيقة المطلقة ليكون جوهر العمل الفني، باعتباره مادة تحفز العقل وتطرح التساؤلات، مؤسساً لحالة من التجريب وتتبع الحقيقة.
لا يفوتنا أن “اللات” وأختها “العُزَّى” كانتا على أي حال تُعنَيان بالخصوبة والزواج والصلح! لذا لا أستغرب أن يرسم ابن الريف ويصر أن يرى عروسه “اللات” بالذات قبل يوم من دخولها بزوجها، إذ كل ما يتمنونه [بالتراث الشعبي] لها في هذا اليوم هو بالفعل “الخصوبة والزواج والصُلح” مع زوجها وعائلتها الجديدة.
فالبلشي يؤثث فعله الجمالي ليبنيه على تراث معرفي خالص، وقد يكون للشفاهي فيه نصيب الأسد، مما يجعلنا نطرح اسئلة جمالية تشكيلية تناقش الحالة وتستدعي الاسئلة، فالبلشي يثير الفكر عبر استدعاء الغرائز ليعيد إنتاج "الرمزي الشعبي" عبر الأسئلة والتأكيد في آن واحد، فهو يجعل المألوف أسطوريا والساخر ساحرا ليعيد إنتاج الأيقونة لا يكررها.
ان القراءة الواعية للاعمال عبر مصفوفة السلطة/الجسد والسؤال هل أيقوناته تدعم أو تتحدى أدوارًا اجتماعية معينة؟ هل تعيد الأيقونات رسم نفسها بوسائط متخيلة تداعب احساس المتلقي وتمنعه من منحه "خطابا مؤسسا" لقوة التعبير والصورة.
كل هذا يضعنا امام خطاب جمالي مختلف على صعيد الصورة والتكوين، فالمرأة البدينة والرجل المستدق الملامح، الأبيض الناصع البياض هذا الفعل الانطولوجي ماهو إلا خلق للعالم لا توصيف له.

يقول هايدغر " ان الفن ينصت الى الكينونة وهي تعلن عن نفسها بالعمل"
وعليه فإن البلشي عبر إستحضارة طقوس الزفاف والوجوه البسيطه، والعلاقات الاجتماعية المألوفة، يفتح الكينونة المحلية على لحظة حضورها الجمالي، تلك اللحظة التي يصبح المألوف فيها شيئا يستدعي التفكير وطرح اسئلة الابداع.
فالجسد في أعمال البلشي مركزًا فلسفيًا أكثر من كونه موضوعًا بصريًا.
المرأة الريفية، الفلاح، الراقصة، الطفل،العروس، والعريس ليست أجسادًا تصويرية بل تجسّد الوجود الشعبي في أقصى بداهته.
وهنا نستدعي فلسفة موريس ميرلو-بونتي في «ظاهراتية الإدراك الحسي»، حيث الجسد ليس موضوعًا مرئيًا فحسب بل «نقطة إنبثاق العالم»؛ أي أن كل معنى يمر عبر الحواس والجلد والملمس.
من الداخل الى الخارج هذا مايفعله البلشي الجسد كحقل تذكّر لا كجمالٍ مرئي، يتعامل مع الجسد كـ«أثر» (trace) بلغة جاك دريدا: حضورٌ مشوبٌ بالغياب، علامة لما لم يعد حاضرًا، انه الغياب في أقصى درجات الحضور، لم يعد اللون معبرا عن الضوء، ولا واصفا للشكل بل عن حالة نفسية تقترب من الذاكرة الطفولية والفرح البدائي، الألوان الساخنة عند البلشي ليست «سعادة» بل «إستدعاء للحياة الأولى»؛ الحياة التي لم تُدرك بعد كحكاية والسر في تفاصيلها، الزمن يُستعاد عبر اللون لا عبر السرد، فاللوحة ليست وسيلة تجميل، بل تكثيف الوجود.

البلشي لا يقدم لنا عملا فلكوريا ولا رسما ساخرا كاريكاتوريا، رغم أن مادته بصرية مأخوذة من هذا وذاك،
بل هو أقرب إلى ما يسميه غاستون باشلار «خيال المادة» — أي أن الرمز الشعبي عنده ليس نقلًا للثقافة بل تحوّل المادة إلى خيال.
في أعماله، الأشياء تتحول إلى طوطم، المرأة إلى كائن كوني، الرقص إلى طقس مقدّس.
بهذا المعنى، يشتغل في منطقة الأسطورة اليومية حيث الحدث العادي يصبح استعارة كبرى للوجود.
وهنا تكمن المفارقة الفلسفية في تجربته:
هل يعيد البلشي قداسة الحياة البسيطة، أم أنه يعيد إنتاج أسطرة التبسيط؟
اعتقد شخصيا ان هذه حدود الفلسفة الجمالية لديه: بين الحنين والتأمل، واستعادة الذاكرة ونقدها، إنه يسعى إلى لحظة يرى فيها الفنان والمتلقي الشيء ذاته من داخل التجربة، لا من خارجها.
اللوحة لا تريد أن «تُرى» بل أن «تُعاش» — وهذا يضعه ضمن تيار «الفن الظاهراتي» Phenomenological Art حيث تكون الرؤية امتدادًا للوجود، الفن الفلسفي — كما يرى أدورنو — «يعيش فقط بقدر ما يتناقض مع نفسه».
والبلشي لكي يستمر فلسفيًا، يجب أن يهاجم لغته التشكيلية كما لو كانت لغة عدوّ مألوف.
يمكن القول إن مشروع سامي البلشي هو محاولة لإنقاذ الذاكرة من النسيان عبر الجمال.
اللوحة ليست تمجيدًا للماضي بل صراعًا معه؛
فهي تقول لنا إن الماضي لا يُحفظ إلا إذا أُعيد تخيّله.
بهذا المعنى، يصبح البلشي أقرب إلى موقف «نيتشي» جمالي يرى أن الفن هو أقصى أشكال الوعي بالحياة،
لا هروبًا منها بل احتفالًا بشراستها وسحرها في آن واحد.
-------------------------------
بقلم: حكيم جماعين
* تشكيلي وباحث جمالي















