الثورة التي طالبت بالضوء… فابتلعتها العتمة
حين اندلعت يناير، لم تكن ثورة على شخص، ولا حتى على نظام. كانت ثورة على طريقة حياة: أن يُهان الإنسان، أن يُسكت صوته، أن يُدار مصيره فوق رأسه، وأن تُباع مصلحته في مزاد النخبة المتحكمة.
كانت ثورة تُريد استعادة “الميكروفون” من يد السلطة ليعود إلى يد المواطن.
لكن بعد سنوات، أصبح المشهد مقلوبًا: عاد الميكروفون إلى السلطة، لكنه عاد مضاعفًا… وعاد المواطن إلى الصمت لكنه صمت أكبر.
المشكلة كما هي… بلا تجميل
المشكلة ليست في كثرة الأحزاب، بل في خوائها. ليست في إجراء الانتخابات، بل في أن نتيجتها تُعرف قبل بدايتها. ليست في غياب المعارضة، بل في تصنيع معارضة مُعلّبة على مقاس النظام.
المشكلة الجوهرية هي انتقال الدولة من “سلطة تتحكم” إلى “سلطة تبتلع”، بحيث يصبح كل ما خارجها — إعلام، سياسة، اقتصاد، أحزاب، منظمات — مجرد ظلّ لها.
وهذا هو الانهيار الحقيقي ليس انهيار مؤسسات، بل انهيار فكرة أن هناك خارج النظام مساحة يمكن أن تتنفس.
وفي قلب هذا المشهد، جاءت الكارثة الأكبر: تخلصنا كذِبًا من الحزب الوطني، فخرج لنا مئة وعشرة حزب وطني بالملامح نفسها، بالروح نفسها، بالانصياع نفسه… أحزاب بلا لون ولا موقف، تُعيد إنتاج كل القبح السياسي، وتُضاعف الخوف، وتدفن ما تبقى من قيم. وهنا تصبح الحقيقة مُرّة: لا أظن أننا سنسترد مصر ما قبل نكبة 1952 إلا بعد أجيال كثيرة، لأن ما انهار لم يكن نظامًا فقط، بل توازن مجتمع وقيم دولة كاملة.
حجم الكارثة: بين الفقر السياسي والفقر المعيشي الكارثة ليست فقرًا اقتصاديًا فقط.
الكارثة أن الفقر السياسي أصبح أصلًا للفقر الاجتماعي. حين يُمنع الشعب من الكلام، تُمنع مشاكله من الظهور. وحين تُمنع مشاكله من الظهور، تصبح الأزمات قدرًا دائمًا، بلا إصلاح، بلا مراجعة، بلا تصحيح. الفقر الذي كان 25% أصبح يقترب من ثلثي المجتمع. ليس لأن المصري عاجز… بل لأن النظام السياسي نفسه أصبح حاجزًا. وحين يصبح البرلمان “صوتًا واحدًا”، تتحول الدولة إلى ماكينة قرار بدون كوابح.
وتصبح الأخطاء قانونًا، ويصبح الاعتراض جريمة، ويصبح الصمت حكمة… رغم أنّه في الحقيقة هزيمة.
انتخابات الاتجاه الواحد: المسرحية التي لا تحتاج ممثلين في أي دولة طبيعية، الانتخابات صراع، صدام، جدال، أخطاء، مفاجآت. في مصر، الانتخابات باتت تشبه لعبة “الاتجاه الإجباري”: طريق واحد، بوصلة واحدة، نتيجة واحدة.
لا أحد يناقش البرامج.
لا أحد يسأل عن الفروق بين المرشحين.
لا أحد يتوقع مفاجأة.
لأن الجميع يعرف: المنافسة ليست بين مرشحين، بل بين الدولة… والدولة. والجمهور متفرّج فقط. هذه ليست انتخابات تُجرى داخل نظام سياسي… بل نظام سياسي يُجري انتخابات لترتيب جلسته.
من الثورة إلى الدولة العميقة إلى… دولة كاملة الظل أسوأ ما حدث بعد يناير لم يكن فشل الثورة، بل نجاح “الدولة العميقة” في مضاعفة نفسها. قبل الثورة، كان هناك حزب واحد يُمسك بالخيوط.
اليوم، هناك منظومة كاملة:
أمن + إعلام + اقتصاد + تشريعات + أحزاب مُقلّدة + برلمان مُهذّب + معارضة ورقية.
منظومة لا تحتاج لبطشٍ ظاهر… لأن الخوف أصبح آليًا. ولا تحتاج لتزوير فجّ… لأن النتائج مضمونة مسبقًا. ولا تحتاج لإقصاء معلن… لأن الإقصاء أصبح جزءًا من قواعد اللعبة نفسها.
الخلاصة: ما بين الحلم والمقبرة السياسية
الثورة حلم… لكن البلاد اليوم تُدار كأنها مقبرة سياسية واسعة:
لا صوت، لا نقد، لا بديل، لا منافسة.
وأسوأ ما في الأمر أنّ الناس لم تعد تنتظر تغييرًا من صندوق الانتخابات…
بل لم تعد تربط التغيير بالسياسة أصلًا.
وهذا أخطر من القمع ذاته:
أن يموت الأمل في القلوب دون إعلان دفن.
كلمة أخيرة
نعم… الكارثة أكبر مما نظن.
ليست كارثة سلطة فقط، بل كارثة وعي وذاكرة.
البلاد تسير في اتجاه واحد…
والاتجاه الواحد لا يصنع دولة، بل يصنع طريقًا مغلقًا ينتهي دائمًا في نفس النقطة.
الثورة طالبت بالكرامة، فانتهى الأمر بكرامة سياسية معدومة.
وطالبت بالمشاركة، فانتهى الأمر بمشهد واحد وصوت واحد واتجاه واحد.
وذلك هو تعريف الكارثة… كما يراه كل من عاش الحلم ثم رأى الجدار يُبنى أمامه من حجارة بقايا ذلك الحلم.
----------------------------
بقلم: عز الدين الهواري






