"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ"
هذه ليست افتتاحية لفظ ، بل ولادة الوجود من الرحمة .
كلّ ما كان وما يكون يبدأ بالاسم - والاسم هو الظهور - فحين قال : بسم الله ، كان ذلك إعلانًا أن لا فعل إلا في حضرة الله .
كأن الكائن يقول : “ لا أتحرك إلا بإذنك ، ولا أكون إلا بك.”
أما " الرحمن الرحيم " فهما جناحا الخلق :
الرحمن يفيض على الكلّ بالوجود ،
والرحيم يخصّ بالهداية من وعى سرّ الوجود .
فالآية إذًا ليست استهلالًا ، بل مفتاحًا للدخول في حضرة المعنى .
" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
الحمد هو الاعتراف الواعي بجمال التكوين .
ليس ثناءً لفظيًّا ، بل انكشافٌ للبهاء الإلهي في كل شيء.
فكل ما في الكون يسبّح ، لكن الإنسان وحده يحمد لأنه يدرك .
وربّ العالمين ليس ربّ البشر فحسب ، بل ربّ كل ذرةٍ تهتزّ في رحم الوجود .
وحين تقولها حقًا ، لا تعود تُشكر على نعمة الطعام أو الصحة فقط ، بل على سرّ أن تكون موجودًا .
" الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ "
تكرار الرحمة هنا ليس تكرارًا ، بل تجلٍّ ثانٍ بعد الوعي .
في البسملة ، الرحمة هي سبب الوجود ،
وفي الحمد ، الرحمة تصبح معنى القيادة .
كأن الله يقول : “ اعلم أنني أملكك ، ولكن برحمة ، وأربّيك ، ولكن بحنان .”
فالربوبية هنا ليست سلطة ، بل عناية .
" مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ "
هنا يتحول الوعي من الشكر إلى الإدراك الأخلاقي .
إنه يوم تشرق فيه الحقيقة بلا أقنعة ، حيث لا يملك أحد لأحد شيئًا .
فالدين ليس يوم الحساب فقط ، بل يوم انكشاف الموازين في داخل الإنسان نفسه .
كل لحظة صدق هي قيامتك الصغيرة ، وكل خطيئة مؤجلة هي دين ينتظر يومه .
بهذه الآية ، يتعلم الإنسان أن الزمن ليس امتدادًا ، بل مسافةٌ بينك وبين وعيك الكامل بالله .
" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "
هنا يتحقق التحرر الأعظم : لا عبودية إلا لله ، ولا استعانة إلا به .
الضمير “ نحن ” يجمعك بالبشر، فيعلن أن العبادة ليست انفرادًا بالذات ، بل انتماء إلى الكلّ في وحدة الوجود .
والمسافة بين “ نعبد ” و“ نستعين ” هي مسافة الصدق في العمل :
فكل عبادة بلا استعانة هي جهدٌ متكبر ، وكل استعانة بلا عبادة هي اتكالٌ كسول .
الآية تضع الإنسان في توازن الوجود بين الفعل والتسليم .
" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ "
الهداية هنا ليست دلالة طريق ، بل إيقاظ البصيرة .
الصراط المستقيم ليس خطًا جغرافيًّا ، بل اهتداء الوعي نحو الحقيقة دون ميلٍ إلى الأنا أو العالم .
هو أن تمشي في الحياة دون أن تنحرف بيمين المصلحة أو يسار الهوى .
هو خطّ النور الممتدّ من "كن" إلى " ارجعوا إلى ربكم "،
ومن الذات إلى السرّ الذي أوجدها .
" صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ "
هؤلاء هم الذين انكشف لهم المعنى ، فصاروا يرون الرحمة في كلّ شيء .
ليسوا مكرّمين بمالٍ أو سلطان ، بل بوضوح البصيرة .
أنعمتَ عليهم بأن أذقتهم حلاوة المعرفة ، فصاروا يسيرون على الصراط لا بأقدامهم ، بل بأنوارهم .
" غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ "
الغضب والضلال وجهان لغياب النور .
الأول لمن عرف وانحرف ، والثاني لمن جهل فتاه .
وكلاهما ضياع عن الحقيقة :
الأول بعلمٍ بلا إخلاص ،
والثاني بإخلاصٍ بلا علم .
والفاتحة تُعيدك من هذين المسارين إلى الطريق الثالث : طريق النور والمعرفة والمحبة .
الخاتمة :
الفاتحة ليست سورة تُفتتح بها الصلاة ،
بل هي الصلاة ذاتها في جوهرها .
هي حركة الوعي من الكثرة إلى الواحد ،
ومن الحيرة إلى الطمأنينة.
من قالها بقلبه ، فقد صلّى وإن لم يركع ،
ومن قرأها بلسانه فقط ، فقد أدّى شكلاً دون روح .
الفاتحة هي الإنسان حين يستيقظ في حضرة الله ،
يبدأ بالرحمة ، ويمرّ بالحمد ، وينتهي بالهداية .
هي رحلته منذ قال : يا رب .… حتى يسمع النداء : ارجعي إلى ربك راضية مرضية .
-------------------------------
بقلم: سمير إبراهيم زيّان






