13 - 11 - 2025

الفاتحة.. مفتاح الوجود وميزان الوعي

الفاتحة.. مفتاح الوجود وميزان الوعي

"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ"

هذه ليست افتتاحية لفظ ، بل ولادة الوجود من الرحمة .

كلّ ما كان وما يكون يبدأ بالاسم - والاسم هو الظهور - فحين قال : بسم الله ، كان ذلك إعلانًا أن لا فعل إلا في حضرة الله .

كأن الكائن يقول : “ لا أتحرك إلا بإذنك ، ولا أكون إلا بك.”

أما " الرحمن الرحيم " فهما جناحا الخلق :

الرحمن يفيض على الكلّ بالوجود ،

والرحيم يخصّ بالهداية من وعى سرّ الوجود .

فالآية إذًا ليست استهلالًا ، بل مفتاحًا للدخول في حضرة المعنى .

" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "

الحمد هو الاعتراف الواعي بجمال التكوين .

ليس ثناءً لفظيًّا ، بل انكشافٌ للبهاء الإلهي في كل شيء.

فكل ما في الكون يسبّح ، لكن الإنسان وحده يحمد لأنه يدرك .

وربّ العالمين ليس ربّ البشر فحسب ، بل ربّ كل ذرةٍ تهتزّ في رحم الوجود .

وحين تقولها حقًا ، لا تعود تُشكر على نعمة الطعام أو الصحة فقط ، بل على سرّ أن تكون موجودًا .

" الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ "

تكرار الرحمة هنا ليس تكرارًا ، بل تجلٍّ ثانٍ بعد الوعي .

في البسملة ، الرحمة هي سبب الوجود ،

وفي الحمد ، الرحمة تصبح معنى القيادة .

كأن الله يقول : “ اعلم أنني أملكك ، ولكن برحمة ، وأربّيك ، ولكن بحنان .”

فالربوبية هنا ليست سلطة ، بل عناية .

" مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ "

هنا يتحول الوعي من الشكر إلى الإدراك الأخلاقي .

إنه يوم تشرق فيه الحقيقة بلا أقنعة ، حيث لا يملك أحد لأحد شيئًا .

فالدين ليس يوم الحساب فقط ، بل يوم انكشاف الموازين في داخل الإنسان نفسه .

كل لحظة صدق هي قيامتك الصغيرة ، وكل خطيئة مؤجلة هي دين ينتظر يومه .

بهذه الآية ، يتعلم الإنسان أن الزمن ليس امتدادًا ، بل مسافةٌ بينك وبين وعيك الكامل بالله .

" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "

هنا يتحقق التحرر الأعظم : لا عبودية إلا لله ، ولا استعانة إلا به .

الضمير “ نحن ” يجمعك بالبشر، فيعلن أن العبادة ليست انفرادًا بالذات ، بل انتماء إلى الكلّ في وحدة الوجود .

والمسافة بين “ نعبد ” و“ نستعين ” هي مسافة الصدق في العمل :

فكل عبادة بلا استعانة هي جهدٌ متكبر ، وكل استعانة بلا عبادة هي اتكالٌ كسول .

الآية تضع الإنسان في توازن الوجود بين الفعل والتسليم .

" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ "

الهداية هنا ليست دلالة طريق ، بل إيقاظ البصيرة .

الصراط المستقيم ليس خطًا جغرافيًّا ، بل اهتداء الوعي نحو الحقيقة دون ميلٍ إلى الأنا أو العالم .

هو أن تمشي في الحياة دون أن تنحرف بيمين المصلحة أو يسار الهوى .

هو خطّ النور الممتدّ من "كن" إلى " ارجعوا إلى ربكم "،

ومن الذات إلى السرّ الذي أوجدها .

" صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ "

هؤلاء هم الذين انكشف لهم المعنى ، فصاروا يرون الرحمة في كلّ شيء .

ليسوا مكرّمين بمالٍ أو سلطان ، بل بوضوح البصيرة .

أنعمتَ عليهم بأن أذقتهم حلاوة المعرفة ، فصاروا يسيرون على الصراط لا بأقدامهم ، بل بأنوارهم .

" غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ "

الغضب والضلال وجهان لغياب النور .

الأول لمن عرف وانحرف ، والثاني لمن جهل فتاه .

وكلاهما ضياع عن الحقيقة :

الأول بعلمٍ بلا إخلاص ،

والثاني بإخلاصٍ بلا علم .

والفاتحة تُعيدك من هذين المسارين إلى الطريق الثالث : طريق النور والمعرفة والمحبة .

الخاتمة :

الفاتحة ليست سورة تُفتتح بها الصلاة ،

بل هي الصلاة ذاتها في جوهرها .

هي حركة الوعي من الكثرة إلى الواحد ،

ومن الحيرة إلى الطمأنينة.

من قالها بقلبه ، فقد صلّى وإن لم يركع ،

ومن قرأها بلسانه فقط ، فقد أدّى شكلاً دون روح .

الفاتحة هي الإنسان حين يستيقظ في حضرة الله ،

يبدأ بالرحمة ، ويمرّ بالحمد ، وينتهي بالهداية .

هي رحلته منذ قال : يا رب .… حتى يسمع النداء : ارجعي إلى ربك راضية مرضية .

-------------------------------

بقلم: سمير إبراهيم زيّان

مقالات اخرى للكاتب

الفاتحة.. مفتاح الوجود وميزان الوعي