خلال الشهور الماضية، توالت قضايا توظيف الأموال لتكشف عن شبكة من الأوهام الاقتصادية والتي تتغذى على أحلام الناس، تجمع مئات الملايين من الجنيهات بدعوى الاستثمار عالي المردود، مستخدمة واجهات قانونية وشعارات براقة قبل أن تنهار فجأة وتختفي معها أموال الناس، الغريب في الأمر أن التحقيقات أوضحت أن تلك الشركات، تحمل تصاريح رسمية وأسماء توحي بالمصداقية، بينما نشاطها الحقيقي لم يكن سوى توظيف غير مشروع للأموال، عبر وعود خيالية بعوائد مرتفعة وسريعة، الموضوع ليس وليد اليوم فعلى مدار سنوات نسمع عن مثل هذه القضايا والتي لا تنتهي بل تتكرر وتتكرر مستغلين الوضع الاقتصادي المتردي والظروف الاجتماعية البشعة التي نمر بها جميعا.
هذه الجرائم المتكررة، مؤشر صريح على خلل أعمق في بنية الوعي الاقتصادي والاجتماعي والديني، فهي تكشف عن مجتمع يُنهك يوميًا تحت وطأة الغلاء، ويُدفع دفعًا إلى البحث عن أي مخرج، حتى لو كان مغطىً بالوهم وعدم الشرعية القانونية، في زمن تتسارع فيه الأزمات، وتضيق فيه فرص العمل الكريم، يتحول الحلم بالاستقرار إلى طوق نجاة يتشبث به الجميع، وهنا يظهر المستغلون: بملابس أنيقة، ومكاتب فاخرة، ولغة تسويقية تتقن ملامسة الحاجة، يقدمون مشاريع "استثمارية" يدّعون أنها آمنة ومضمونة ومربحه حدّ إعماء العيون وشلّ التفكير، للأسف في حقيقتها هي مصائد مُحكمة تستنزف مدخرات الطبقات البسيطة التي لا تملك ترف التجربة أو الخسارة، لكنهم يأملون في استقرار وحياة أفضل لا تأتي في هذه الأيام سوى بالمال.
ما يحدث ليس فقط جريمة نصب، بل جريمة ضد الثقة، فحين يُخدع الناس عبر شعارات التنمية والاستثمار، يتآكل الإيمان بفكرة أن الجهد الشريف يمكن أن يُثمر، ويحل محله شعور بأن النجاح مرادف للخداع، وأن الذكاء يعني الاحتيال، وأن كل ما يتطلبه الأمر فرصة لاستغلال جهل الأخر لتحقيق ثراء سريع، في الحقيقة هذه الانعكاسات النفسية أخطر من خسارة المال ذاته، لأنها تهدم الأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه أي مجتمع.
الأخطر أن هؤلاء المحتالين لا يرون في أفعالهم جرمًا، بل "فرصة" استغلوها بمهارة، بينما الضحايا، المنهكون من الوعود الفارغة والواقع القاسي، يقعون فريسة لأنهم فقط أرادوا أن يعيشوا بكرامة، القضية في جوهرها ليست اقتصادية فقط، بل إنسانية، فاستغلال الفقر ليس عملاً تجاريًا، بل امتهان لكرامة الإنسان، إن المجتمع الذي يسمح بتحويل الحاجة إلى سلعة، سيفاجأ بأن أخلاقه هي أول ما يُنهب، لذا لم يعد كافيًا الاكتفاء بضبط الجناة بعد حدوث الكارثة، بل لابد من وعي وقائي يواجه الوهم من جذوره، المجتمع لا يُشفى من الوهم بالعقاب وحده، بل بالمعرفة التي تحصنه، المطلوب ليس فقط قوانين صارمة، بل أيضًا تعليم اقتصادي، وإعلام مسؤول، ومؤسسات مالية جديرة بالثقة تهتم باستثمار أموال هؤلاء البسطاء مهما صغرت قيمتها لتملأ الفراغ الذي يتسلل منه المحتالون.
الاستثمار الحقيقي لا يُقاس بحجم الأرباح، بل بقدر ما يحافظ على إنسانية من يشاركون فيه، وما لم ندرك أن الطمع ليس وسيلة للتنمية بل طريقًا لانهيارها، سنظل ندور في دائرة الوهم نفسها، نغتسل كل مرة بالصدمة، ثم نعود لنصدق الإعلان التالي عن فرصة لاستثمار بمقابل فائدة ضخمه حد الخيال توقعنا فريسة سريعة بين براثن هؤلاء النصّابين، إن لم نتعلم التمييز بين الحلم والوهم، سيظل الطمع يبيع لنا فقراً في ثوب الثراء.
-----------------------------
بقلم: إنچي مطاوع







