09 - 11 - 2025

"الختيارُ" الذي اختارته الحرّية

طوبى لك أيّها الشهيدُ الرمز! يا مَن أدركَ روحَ الأشياء. الآن فهمتُ قصدكَ البليغَ بأنَّ الناسَ يمتلكون الحاضرَ، أما نحن فنمتلكُ هناكَ.. وما لم أجدهُ أبداً وجدتُه فيكَ. وإذا رُصِفتْ لكَ الطريقَ.. فامشِ، ولا تلتفت للوراء. فَرجاءُ الشهيد أن يصل إلى الأبواب.

***

ياسر عرفات؛ النجمة التي غمرت القارّات ببريقها، وقد رَبِحَ معركته حيّاً وميتاً. لم يكن قلبه حديقةً فارغةً، ولم يعرض أحلامه للبيع، بل تعرّف إليها فأصبحت أيامه حافلةً بالحياة. أغلق عينيه.. لكنّ الكرة المائية ما فتئت تشهد على أخاديد الموت ودفن الحياة.

رحل جسداً، بعد أن أثبت أن نبيّاً كان يخفق في داخله، لهذا كان ممَن اختارتهم الحرية ليدافعوا عنها. جعل عتمة المظلمة فحماً قرمزياً، مثلما أحال طقس الحصار والقيود والقصف، إلى غضب. كانت بوابات البلاد خانقةً وثقيلةً، لكنه ألهبها، وجعل للفولاذ نشوة المنتصر. حطّ على أرض الكبرياء وهتف لسيدتنا الحرية!

لقد كانت ومضةً إلهيةً بداخله. أطلق من قبضته النسور الغاضبة، وكانت أصابعه خضراء، وظل زهرةً في منتصف الأشواك. وعلم أن سلعة الاحتلال شريرةٌ وكلمته تقود إلى جهنم.. لهذا؛ لم يكن صيداً جاهزاً، كما لم يكن رأسه مشوشاً. كان يعلم أن صندوق دولة الاحتلال مكسور. لقد شكّل غنائيةً جامحةً لنا، وأراد للأرض أن تستعدّ للزفاف، لا للنحيب. من هنا رأينا أنّ الغيوم كانت بحوره المعلّقة، وصوته الشغب الأنيق، الذي ذوّب دم المعتقلين والجرحى، بالبرق.

قاوم رياح الخراب.. فَمجده بلا نهاية. كانت عيون النصر في كلّ مكان تشخص نحوه، وكان يسمع البحر ونداءات الأحرار ومَن ارتوت حياتهم بالدماء.

تحية نبويّة لهذا الرمز الرسولي المقاتل، الذي أفرغ رؤوسنا من العقارب، وجعل أجيالاً كاملةً مثل الجياد، تنفث النار حتى لا تتوه في الظلام.

كانت خطواته واسعةً كالرياح، والأرض تُقَبِّل قدميه، والقمر يبعث ظلّه على أردان ثوبه. وما زلنا نعيش هذه النغمة المُبَشِّرة، التي جعلتنا ندرك أن فلسطين هي المكان الأخير الذي نهرب اليه.

شكراً يا ختيارنا الذي كسر الجلجلة المزخرفة لموتنا، وشكراً جميلاً لمَن حطّم أبواب الليل معك، فصارت النجوم تتراقص تحت نعليه. ونحبك أيّها الرمز الباقي فينا..

***

لقد مررتَ، أيّها الكبش المُكحَّل، بالعواصف الهوجاء، على اختلاف شدائدها وتعدّد مضامينها الساخنة، فأخذتَ منه ما يصلح من زادٍ في أكياسك، لتقطع رحلتكَ بأمان. والشهيد هو الرامي بقصده الى الله عزّ وجلّ، فلا يعرج حتى يصل. وهذه الكلمات مختارات من مسيرتكَ في الطريق، أو اقتباساتك من صحون الجمر الريّانة؛ قد أخلصتَ فأُخْلِصَ إليكَ، ومنحتَ ما استودعتَه فضوعفَ لكَ الآن وهناك. وغضضّتَ من أجل الأرض فَفتّح الله تعالى، إليكَ طاقات النور والجَمال. وعففتَ عن المال والكرسيّ، فَعفّ أبناؤك، وهدأ ليلك، وصحّ نهارك، وصفا وجهك، ووثق لسانك، ونفذ حرفك، ووطأت خطوتك، ورسخت على الاستقامة والاطمئنان، وواصلت المناجزة الدموية، فَضمنتَ سلامةَ العِرض والخلود.

جمعتَ حطبك، وصُنْتَ أشجارك لسنوات العتمة المدلهمّة الخاسفة، ولم تتزحزح عن الحروف، حتى لا تنزلق إلى العَوْز والهامش الفارغ، وملأت أكياسكّ بأسماء بلادك المنهوبة، حتى تعود.. وستعود.

و"لم تكن عنيداً كالألف، ولم تكن كالباء برأسين، كُنْت كالجيم"، وَبَدِّلت ما تبقّى من شهوة الفانية والتعلّق بالعنكبوت، بما هو باقٍ لا تنحلّ عُراه ولا تنبتُّ حِباله واستطالاته.

وتمسَّكت بالحِكمة المقُطَّرة التي لا يفاجئك معها شيء أو حادث حصارٍ.. أو باعث لقشعريرة تصيب الحديد. وجعلت الباقي أمام ناظريك وعلى شفتيك وبين عينيك، في كل نأمة وحرف وخطوة، وأحسنت الظنّ بما تريد، فكان لكَ ما تريد.. وأحْسنتَ الظنّ بالله تعالى فنجوت شهيدا.

وكنتَ الخادم لإخوانكَ. ومَنْ اعتذرَ عن خدمة إخوانه فإن الله تعالى يضع من شأنه فلا يشمله العفو، هذا ما كان في نفحات الأنس، حيث ينبغي أن يجتمع الأخوة ويتدارسون في مكانٍ هو جنّة ورود الأصدقاء وسياج الإخلاص.

***

وربما مات أبو عمّار الإنسان، لكنّه يوم دَفْنه قام أسطورةً، ما فتئت تكتب مصائرَ الناس. والشهيدُ هو الذي جمع اسمَ الله، عزّ وجلّ، في صدره، فَجنَّحَ في آفاق الفردوس الأعلى.

وسنبقى في البلاد، التي لم تغلق بيت عزاء أهلها، وقد طرّزت الدماءُ شوارعَها المتربة، فاستفاق الطيّون على رصيفه الدامي، وغصّت الفرفحينةُ بعلقم الشقائق المتخثّرة، وصارت ثياب نسائها تقطر بالدمع والسواد، بعدما تزيّت الغلالاتُ، ذات عُرْسٍ، بالدوالي وعروق الذّهب، وفاضت على الأكتاف سلالُ المنثور والحبق، وخيوط الجنّة والنار الحريرية.

لعل الشهداء، في غزّة وجنين.. أرادوا أن يقطعوا المسافة نحو الشمس، فانطفأ الزمان في احتراق المسافات، وما زالوا مذبوحين في مدينة السلام المظلمة.

لقد نظر الشهداء إلى بعضهم البعض، فتشابكت حولهم جذور الأبجدية، والتفّت حولهم، وصعدت، وتطاولت، حتى احترقت ببرق القذائف، فانفلق اللبّ، وفاض الجمر، واشتعلت الغيوم، ودبّت النجوم في السماء.

وما زلنا ندرك بأنّ المؤامرةَ تحزّ بسكّينها المثلومة في أرواحنا، بل نحن الذين نمرّر النّصل على أوردتنا ونقطّع شراييننا، باختلافنا وفرقتنا وتوزّعنا المشبوه، وباقتتالنا وتشظّينا وتصادم أكتافنا على الخازوق.. وكلّ ما لدينا منهوب ومأخوذ ومسروق، بالمجازر والاقتحامات والابتزاز.. وما زلنا نتشدّق بمفردات الوطن والدّين والثوابت؟ ألمْ نلحظ، بعد، أننا نخيط أكفاننا بأيدينا ونحفر قبورنا بمعاولنا، وندفن ما ظلّ من فلسطين في قبر الانقسام والتحكّم والمكاسب الشخصية والانحياز إلى الشيطان؟ أيتها الفصائل المقاومة الحريصة الحافظة للآيات والمبادئ!

ما الذي تبقّى لديكم أيتها الفصائل لتقولوه أمام غزّة والجثث والأسرى والأيتام والشجر المخلوع وأكوام الركام الصادمة؟

يا سادةَ الفصائل! هل ثمة لغةٌ تصلح لرواية ما جرى من حرقٍ وخلعٍ ودَهْمٍ وسجنٍ وهدمٍ ومصادرةٍ وإذلالٍ وحصارٍ وتجويعٍ وصفاقةٍ وتبجّحٍ واغتصابٍ وقتلٍ واستباحةٍ وإبادة مُشْرعة على الهواء مباشرة!..في طول المعمورة وعرضها؟

لن ينجو أيّ أحد منكم إن لم تترسّموا خطوات الشهيد، فعندها ستجدون العزاء والأعذار، وسنصدّق، ساعتها، مرافعتكم الحقّة.

***

.. ودَعوا الشهيد يَحلم، فقد عوَّدنا أن يُحيلَ السنينَ العجافَ إلى خوابٍ وندى، اتركوهُ في حَمْأة الشَمسِ يُؤَسّسُ نَشيدنَا القزحيَّ، وامشوا على خَطَايا خُطاكم أيُّها الطارِئون.. ودعوهُ يَحلم! سيخرجُ من فُصولِ سِنيّكم ومراحل دوائركُم الرماديّةِ، ليمتطيَ صهوةَ الحجارة واللظى.. ليرفضَّ من روحِ حلمهِ بركانُ الوضوح، ويغطّي صحاريكم بأرجوان سبحاته ومشاويره الدامية.

و.. دعوه يحلم. فالشهيد نائمٌ، ليس إلا.

والشهيد أجمل مَن يحلم، حتى أن الطير والشجر تنظر إلى سهام عينيه، لتتمكّن من الصعود.
---------------------------
بقلم: المتوكل طه


مقالات اخرى للكاتب