في دهاليز الوجدان العربي، حيث تتلاطم أمواج الهمّ الثقيل وتتراكم ظلاله، يرتسم مشهد اليأس كلوحةٍ داكنة الأفق. إنها لحظةٌ تتجمد فيها الأفعال وتتبلور فيها حقيقة العجز المؤلم أمام جمر القضايا الكبرى، وعلى رأسها قضية فلسطين الجريحة، التي تئن تحت وطأة محنة تتجاوز حدود الكلمات والتحليل.
لقد أضحى المجال العام، الذي كان يوماً مسرحاً للأمل والتغيير، مجرد سراب يتبدد تحت وطأة قسوة الواقع. فبينما تتعاظم المأساة في أرض الزيتون، وتتوالى فصول الضيق على الشعوب العربية بفعل ضغوط الأنظمة وتضييق الخناق، يجد الفرد نفسه محاصراً بين سندان القهر ومطرقة الإحباط.
إن قرار تجميد النشاطات السياسية ليس مجرد تقاعسٍ أو خضوعٍ للكسل. إنه اعترافٌ مريرٌ بفشل الفعل الفردي في إحداث فرقٍ حقيقي ضمن سياقٍ تتضاءل فيه مساحات الحرية وتغيب فيه إمكانية التأثير الفاعل.
هذا الانسحاب يكمن جوهره في إدراك ضآلة الجهد الفردي أمام ضخامة التحديات. عندما تغيب التيارات الفاعلة القادرة على التأسيس لحركة تغيير جذرية، يصبح الانخراط السياسي ضرباً من العبثية. وكأننا نرتشف قطرات الماء في صحراء لا متناهية، فلا يروي العطش ولا يغير المشهد.
إن قضية فلسطين ليست مجرد ملفٍ سياسي، بل هي قضية وجود وكرامة إنسانية. هذا الثقل الهائل، المقترن بشعور المواطن العربي بأنه مخنوق من الداخل بفعل سياسات حكامه، يخلق عبئاً نفسياً لا يمكن للفرد تحمله بمفرده دون أن يستشعره تيار جماعي داعم.
يغدو الانسحاب، في هذا الإطار، شكلاً من أشكال المقاومة السلبية للعبث. هو تراجعٌ واعٍ عن ساحة المعركة التي يغلب عليها زيف المشاركة و وهم التغيير، لحماية ما تبقى من الروح والنزاهة الداخلية من التآكل بفعل خيبات الأمل المتكررة. إنه اختيار الصمت على الصخب الأجوف.
لا يعني هذا الانسحاب التخلي عن المبدأ أو الفكرة، بل هو تأجيلٌ قسري للمشاركة الفعالة ريثما تتغير موازين القوى أو يظهر تيارٌ جديد يستحق التضحية والجهد. إنه حالةٌ من الانتظار المرير، حيث يجلس الفرد على ضفة النهر، يشاهد مجرى الأحداث الجارف، مدركاً أن القضايا أكبر من قدرته في اللحظة الراهنة.
ويبلغ هذا اليأس أشده عندما ينظر المرء إلى المسارات "الديمقراطية" الشكلية، كالمشاركة في انتخابات مجلس النواب المصري. ففي غياب النزاهة و الحرية التي هي ركائز أي عملية سياسية حقيقية، تتحول صناديق الاقتراع إلى مجرد طقس شكلي عقيم. إنها مشاركة لا تفضي إلا إلى تزكية الواقع القائم، وتكريس وهم التمثيل، مما يعزز قناعة الفرد بأن التغيير المأمول لا يمكن أن يولد من رحم هذه المؤسسات التي فقدت شرعيتها المعنوية في إبداء صوت الأمة.
في هذا المنفى الاختياري عن الفعل، يظل القلب معلقاً بالأمل في بزوغ فجرٍ جديد، حيث لا يعود فيه الانخراط السياسي مجرد تنفيس أو صرخة في واد، بل يصبح بناءً حقيقياً لمستقبلٍ تستعيد فيه الأمة العربية كرامتها وحقها في تقرير مصيرها وتحرير أرضها المقدسة. إلى أن يحين ذلك الوقت، تظل العزلة السياسية ملاذاً وحيداً لمن اختار الصدق على المجاملة في وجه هذا الواقع الأليم.
-----------------------------
بقلم: د. سامي البلشي







