ما أن يجري تقريب أحدهم من دوائر السلطة حتى يتخيل أنه العليم ببواطن الأمور أو المطلع على الخفايا، خاصة إذا صادف أن يكون هذا المقرب يتسم بالضحالة، فلا تاريخ قرأ، ولا قدر مصر عرف، وأصبح يهرف بما لايعرف، فيسيء لبلده من حيث أراد أن يحسن، ويقزم صورتها إن شاء أن يعلي من قدر الأخرين.
أثناء تكريمه في ختام مهرجان "وهران الدولي للفيلم العربي" المقام من 30 أكتوبر إلى 5 نوفمبر، وقف الممثل ياسر جلال، المعين حديثا عضوا بمجلس الشيوخ، أمام الحفل وفي حضور وزيرة الثقافة الجزائرية ليقول: "أنا شخصيا اتربيت على حب الجزائر من والدي المخرج المسرحي – الله يرحمه – المخرج المسرحي جلال توفيق كان دايما يحكيلي عن سوريا والجزائر، فحكي لي عن الجزائر - وانا قلت ده في لقاء تليفزيوني – بعد حرب 67 كان فيه إشاعة إن إسرائيل هتعمل إنزال في ميدان التحرير وهتعمل أعمال تخريبية، فالجزائر بعتت جنود صاعقة جزائريين بقوا ماشيين في ميدان التحرير في وسط البلد علشان يحموا المواطنين الستات والرجالة المصريين".
رغبة في مجاملة مكرميه أو سعيا للحصول على اللقطة، روى ياسر جلال مالم يحدث أبدا، وكان حريا به – وهو الآن عضو بمجلس الشيوخ - أن يقرأ ولو قراءة سطحية عن التاريخ المصري مع الجزائر، فهناك تاريخ ثري يجمع البلدين، وكان يمكن بقراءته أن يعرف أفضال مصر على الجزائر ورد الجزائر على هذه الأفضال، قبل أن يروي شيئا - مخترعا - تنقله عدسات التليفزيون.
هذه سطور موجزة عما بين مصر والجزائر
- - تم وضع اللمسات الأخيرة للتحضير لاندلاع الثورة الجزائرية ضد استعمار فرنسي دام 130 سنة في اجتماعين عقدا 10 و24 أكتوبر 1954 بالقاهرة من طرف لجنة الستة ومجلس قيادة الثورة المصرى، خلال الاجتماع تم الاتفاق على إنشاء جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني.
- دعمت مصر ثورة الجزائر بالسلاح والخبراء، فكانت مصر الداعم الأول والأهم لها. وهو ما دفع كريستيان بينو (وزير خارجية فرنسا وقتئذ) للقول: أن التمرد في الجزائر لا تحركه سوى المساعدات المصرية، فإذا توقفت هذه المساعدات فإن الأمور كلها سوف تهدأ. ودفع بن جوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) إلى قول: على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدّروا أن «عبد الناصر» الذي يهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر. وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 قال العقيد سي الحواس قائد الولاية السادسة أثناء حرب التحرير الجزائرية انهزمت مصر انهزمت الثورة الجزائرية. وبعد اندحار العدوان الثلاثي كانت القاهرة مقر الحكومة الجزائرية المؤقتة التي تأسست في 19 سبتمبر 1958 وبدأت شحنات أسلحة للجزائر لو قومتها بأسعار اليوم لتجاوزت مليارات الدولارات (شحنات الأسلحة معروضة بالتفصيل في كتاب فتحي الديب "عبدالناصر وثورة الجزائر" على 40 صفحة من الوثائق من الصفحة 676 – 715).
- أوفد الرئيس جمال عبد الناصر بعثة عسكرية كبيرة إلى الجزائر، بقيادة العقيد محمد فوزي (وزير الحربية المصري فيما بعد (1967-1971). واستقبلت القاهرة مئات المقاتلين الجزائريين ليتدربوا على العمليات الخاصة، الاقتحام، التسلل، والقتال في المناطق الجبلية تحت إشراف خبراء مصريين من وحدة 39 صاعقة في معسكرات بالقاهرة، والإسماعيلية، والإسكندرية، ثم عادوا ليشكلوا أول أفواج الكوماندوز في جيش التحرير، ويقاتلوا ضد الفرنسيين، وبعد الاستقلال ، أوفدت مصر الضابط رجائي عطية ليؤسس المدرسة التطبيقية للقوات الخاصة في سكيكدة (1963-1965)، وشكل الكتيبة الأولى للصاعقة ثم أضاف كتيبة ثانية خلال 3 شهور، وعمليا الخبرات المصرية هي من حولت المقاتلين الجزائريين ضد الاستعمار إلى جيش نظامي محترف. فقد كانت أول صفقة سلاح من أوروبا الشرقية بتمويل مصري بلغ حوالي مليون دولار، كما قدمت مصر 75% من الأموال التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ 12 مليون جنيه سنويًا. وخصصت مصر - بقرار من جمال عبد الناصر - عائد قناة السويس (بلغت 3 مليارات فرنك فرنسي قديم) للكفاح الجزائري.
- في محاولة لرد بعض أفضال مصر، بعد تعرضها لعدوان 5 يونيو 1967، أرسلت الجزائر باخرة محملة بالأسلحة والذخائر الحية ومواد التموين الضرورية للحرب، وعلى متنها 30 دبابة وخطب بومدين في القوات الجزائرية المرسلة بثكنة عسكرية بزرالدة غربي العاصمة قائلا: ''العدو يتحرش بالجيوش العربية، وقد جعلوا إسرائيل خنجرا في قلب الأمة العربية، وأنتم مجاهدون في سبيل القضية العربية، ومصر هي التي تحملت عبء الحرب وساعدتنا خلال ثورة التحرير، لنبرهن على قوتنا خارج حدود أراضينا"، لكن هذه القوات لم تصل إلا بعد أسبوعين وكانت الحرب قد انتهت،
- في عام 1973 كانت الجزائر داعمة لمصر، وطلب الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين من الاتحاد السوفيتي طائرات وأسلحة لإرسالها لمصر، وحين طلبوا مبالغ ضخمة أعطاهم بومدين شيكا فارغا وقال لهم أكتبوا المبلغ الذي تريدونه، وهكذا تم شراء الطائرات والعتاد اللازم وإرساله إلى مصر، ووصل للموانيء المصرية يوم 4 أكتوبر – قبل العبور بيومين – كما شارك مقاتلون جزائريون في عمليات إسناد الجيش الثالث الميداني، دون أن يشاركوا في قتال مباشر.
هناك إذن ما كان يمكن أن يقال ، بعيدا عن "التلفيق"، فالجيش المصري – رغم انسحابه من سيناء، ظل أقوى من عدة جيوش عربية مجتمعة، والجيش الذي خاض معركة رأس العش بعد أسبوعين فقط من انتهاء حرب 67 لم يكن عاجزا عن حماية قلب العاصمة المصرية.
التاريخ المصري ليس مضمارا للهواة ولا لأنصاف المثقفين، ولا يحتمل العبث على يد ممثل لمجرد أنه مثل دور رئيس الجمهورية في مسلسل تليفزيوني أو عُيِّن عضوا بمجلس الشيوخ.
-------------------------------
بقلم: مجدي شندي






