مباني عكس الجاذبية تعاند الفيزياء وتشبه أفلام الخيال العلمي وتكلفة بلغت 4.5 تريليون دولار .. كل ذلك انهار في لحظة
كان "المرسى المخفي" هو حجر الزاوية في مشروع "ذا لاين" المدينة الخطية الشاسعة ذات الواجهات الزجاجية في المملكة العربية السعودية، فقد كان من المخطّط له، أن تمر أكبر سفن الرحلات البحرية في العالم عبر بوابةٍ بارتفاع يضاهي برج "ذا شارد" في لندن، وصولًا إلى ميناء مياه عميقة محفور في الصحراء، وكان من المؤمل ان تعّلق فوقه بناية زجاجية فولاذية من 30 طابقًا تحت القوس مباشرة، في رؤية أقرب إلى أفلام الخيال العلمي ابتكرها مدير فني من هوليوود، لكن حتى المصممين أنفسهم حذروا من أن قوانين الفيزياء قد لا تخدم المشروع.
خطّط المهندسون لإنشاء محطة قطار فائق السرعة تحت المرسى. وفوق “الثريا”، إضافة أخرى تتمثل في ملعب كرة قدم يتسع لـ 45 ألف متفرج، موضوع على ارتفاع 350 مترًا فوق مستوى سطح البحر، استعدادًا لكأس العالم 2034 في السعودية.
قال دينيس هيكي، رئيس تطوير "ذا لاين"، لجمهور في دافوس في وقت سابق من هذا العام "هذا الملعب لن يكون شبيهًا بأي شيء رأيتموه من قبل. والجميع يسأل: هل يمكنكم بناؤه؟"، لكن حتى فريقه لم يكن متأكدًا من الإجابة.
مع تقدّم المعماريين في العمل على المخططات، بدأت فكرة "الثريا المعلّقة" تبدو غير معقولة، وذكر أحد المعماريين أنه حذّر طارق قدومي، المدير التنفيذي لـ "ذا لاين"، من صعوبة تعليق بناية من 30 طابقًا رأسًا على عقب من جسر على ارتفاع مئات الأمتار في الهواء، وقال له "هل تدرك أن الأرض تدور؟ وأن الأبراج العالية تتمايل؟"، وأوضح المعماري أن الثريا يمكن أن "تبدأ بالتأرجح كالبندول، ثم تزداد سرعتها، وفي النهاية تنفصل وتسقط نحو المرسى تحتها".
استمع قدومي — واستمر العمل، لكن مع مبنى مقلوب بهذا الحجم، أصبحت أبسط الأمور معقدة.
سأل المعماري "حين تُفرَّغ مياه المرحاض، تتجه إلى الأسفل، صحيح؟"
فأجابه قدومي، وفقًا لرواية المعماري نفسه "لقد حللنا ذلك.. سنستخدم مئات العربات المتحركة ذهابًا وإيابًا لالتقاط مياه الصرف على جسور قابلة للسحب".
هذا النوع من التفكير المتحدّي لقوانين الجاذبية كان يعكس روح مشروع نيوم — المشروع العملاق الذي يقع "ذا لاين" في قلبه — والذي أراد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من خلاله إعادة تعريف الحياة في المملكة وما وراءها.
كانت الثريا مجرد جزء واحد من "ذا لاين" وهو هيكل زجاجي عاكس بارتفاع 500 متر يمتد لمسافة 170 كيلومترًا عبر الرمال، ومصمم ليستوعب تسعة ملايين نسمة — مدينة مبنية داخل جدار يفوق ارتفاع مبنى "إمباير ستايت".
عندما بدأت أعمال البناء قبل ثلاث سنوات، كان "ذا لاين" رمزًا لاندفاع لا يمكن إيقافه: حياة حضرية متحوّلة، بلا شوارع تقليدية ولا سيارات، تعتمد على الطاقة المتجددة، وتمتد دون انقطاع من خليج العقبة إلى جبال الحجاز، وكان من المفترض أن يكون حجر الأساس في نيوم، المدينة المستقبلية التي أراد الأمير محمد من خلالها إثبات حجم طموحه بينما تسعى السعودية للانتقال من اقتصاد نفطي إلى اقتصاد رقمي.
قال الأمير محمد، المعروف اختصارًا بـ MBS، في فيلم وثائقي على قناة Discoveryعُرض أول مرة في يوليو 2023 "يقولون دائمًا عن كثير من المشاريع التي تحدث في السعودية: هذا مستحيل، هذا طموح جدًا. دعهم يستمرون في قول ذلك. وسنستمر نحن في إثبات عكسه"، لكن مع تقدّم التصاميم، اصطدم الحلم بالواقع، فقد بدأ معماريّو "ذا لاين" أنفسهم يتساءلون عمّا إذا كان بالإمكان بناء الهيكل كما تَصوّره الأمير.
ارتفعت التكاليف بشكل هائل، وتأخرت الجداول الزمنية، ولم يتحقق الاستثمار الأجنبي الذي كانت الرياض تعوّل عليه.
اليوم، وبعد إنفاق ما لا يقل عن خمسين مليار دولار، امتلأت الصحراء بأعمال الأساسات، وتمتد الخنادق العميقة عبر المشهد الطبيعي، لكن الأمير محمد، الذي يرأس مجلس إدارة نيوم، قلّص بشكل كبير المرحلة الأولى من المشروع، وأبلغت نيوم صحيفة فاينانشال تايمز أن "ذا لاين" لا يزال "أولوية استراتيجية" وسيقدّم في النهاية "نموذجًا جديدًا للبشرية يغيّر طريقة عيش الناس"، لكنها وصفت المشروع بأنه "تطوير يمتد لأجيال، وبحجم وتعقيد غير مسبوقين".
يؤكد موظفون في نيوم أن كثيرًا من أجزاء "ذا لاين" ما تزال قابلة للتنفيذ تقنيًا، إلا أنهم غير مقتنعين بأن أحدًا مستعد لدفع تكلفتها، وقد تباطأت أعمال البناء في أنحاء نيوم، باستثناء مشروع منتجع التزلج الصحراوي "تروجينا"، المقرر أن يستضيف دورة الألعاب الآسيوية الشتوية لعام 2029، وتقول نيوم إن التركيز انتقل الآن إلى "الهندسة المعقدة والتصميم التفصيلي المرتبط بالمرحلة الأولى من ذا لاين"، لكن موظفًا سابقًا قال "الجميع يعرف أن المشروع لن ينجح؛ ما يحدث الآن فقط هو محاولة لإبلاغ MBS بطريقة لا تُغضبه".
تأتي هذه الرواية من الداخل حول كيفية تصميم حلم الأمير محمد ثم تعثره أمام قوانين الفيزياء والمال بناءً على مقابلات مع أكثر من عشرين شخصًا عملوا في "ذا لاين" - من معماريين ومهندسين ومسؤولين تنفيذيين سابقين - وقد طلب الجميع عدم الكشف عن هوياتهم خوفًا من عواقب قانونية.
وتجمع رواياتهم واحدة من أكثر التجارب الحضرية جرأة في التاريخ الحديث - محاولة لبناء مدينة من الصفر، بلا قيود جغرافية أو سوابق - لكنها الآن مهددة بأن تصبح واحدة من أعظم المشاريع المتعثرة في العالم.
زمن الشعراء
رسّخ الأمير محمد موقعه بصفته الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية في عام 2017، عندما أصبح وليًا للعهد وهو في الحادية والثلاثين، في خطوة وصفها منتقدوه بأنها انقلاب داخل القصر، وكان يقود بالفعل خططًا واسعة - وإن اتسمت بالطابع السلطوي - لتحديث الدولة الخليجية وانهاء اعتمادها على النفط.
وقد كان مشروع نيوم - الذي أُطلق بعد أشهر من تولّيه ولاية العهد - تجسيدًا لتلك الرؤية: مجمعٌ صحراوي هائل يشمل "ذا لاين"، ومشروع "تروجينا" للتزلج، وتطويرًا ساحليًا فاخرًا، ومنطقة صناعية، و "مجتمعًا رقميًا تحت الأرض للمستقبل".
جاءت فكرة المدينة الخطية من الأمير نفسه، فقد تخيّل المقترح الأول - الذي صمّمته شركة الهندسة المعمارية مورفسيس في لوس أنجلوس - شريطًا بعرض كيلومترين من التجمعات السكنية يمتد من البحر إلى الجبال، ومتصلاً بسكة حديدية، وهو تخطيط حضري تقليدي نسبيًا.
ولكن في أواخر عام 2020، أصدر الأمير محمد تعليمات جديدة، وشرح ذلك في الفيلم الوثائقي لقناة ديسكوفري: "قلت للفريق - ماذا لو أخذنا هذين الكيلومترين وقلبناهما إلى برجين؟" ثم ضمّ يديه معًا أمامه كما لو كان يغلق كتابًا.
تجاوزت التوجيهات مجرد تحديد عرض "ذا لاين" بـ 200 متر، وقال MBS لفريقه، وفقًا لأحد المشاركين في التخطيط "أريدها متصلة بالكامل، وأريدها معكوسة."
كان ذ لاين سيصبح من أطول المباني في العالم مع سقف على ارتفاع ثابت يبلغ 500 متر فوق مستوى سطح البحر، لكنه وعلى عكس معظم ناطحات السحاب في العالم سيكون مأهولًا حتى قمته، وهو عبارة عن جدار متواصل من الزجاج والفولاذ.
اقترح بعض المستشارين تقليل الارتفاع إلى 100 متر للحفاظ على المنظر ولخفض التكلفة، لكن الأمير لم يتحرّك قيد أنملة، وقال أحد المخططين "كان لا بد أن يكون ارتفاعه 500 متر وعرضه 200 متر. كان ذلك كله قرارًا منه".
كُشف عن مفهوم "ذا لاين" عام 2021، وبدأ التوظيف تدريجيًا، والتحق آلاف المعماريين والمهندسين ومديري الإنشاءات والمصممين وغيرهم بالعمل في نيوم، وطُلب من كثيرين منهم التواجد في الصحراء نفسها، حيث كان موظفو نيوم يعيشون في كبائن صغيرة ويتناولون الطعام في قاعة مشتركة، حيث جُذب بعضهم بالرواتب العالية، وآخرون العمل في مشروع لا مثيل له.
وُضع جدول زمني طموح، حيث كان من المفترض إنجاز 16 كيلومترًا من "ذا لاين"- أي 20 وحدة - بحلول عام 2030، على أن تبدأ أولى عمليات السكن عام 2025.
تفاخر المسؤولون بأن وحدة واحدة فقط ستكون أكبر مبنى مأهول في العالم، وأُبلغ مسؤولو نيوم أواخر 2021 أن ميزانية "ذا لاين" تبلغ 1.6 تريليون دولار لكن تقديرًا داخليًا محدّثًا في الربيع التالي وضع التكلفة عند نحو 4.5 تريليون دولار، وفقًا لشخص مطلع - أي ما يقارب حجم الناتج الاقتصادي السنوي لألمانيا.
ثم بدأت الفرق بمواجهة التحديات الهندسية والتصميمية غير المسبوقة: تخيّل الحياة داخل جدار يبلغ طوله 170 كيلومترًا وارتفاعه 500 متر؛ وتأمين الفولاذ والإسمنت اللذين سيستهلكان جزءًا هائلًا من الإنتاج العالمي؛ وجعل المياه تتدفق في ميناء مياه عميقة مصنوع بالكامل داخل الصحراء بلا تيارات طبيعية.
لم يسبق أن جرى تنفيذ شيء مماثل، وبعض أفراد فريق نيوم كانوا يتصرفون كما لو أن أكبر عائق لهم هو التفكير التقليدي.
وقال أنطوني فيفيس، الذي كان الرئيس التنفيذي للتطوير الحضري في نيوم، في فيلم قناة ديسكفري "كنتُ في حديث مع اثنين من علماء الفيزياء، فيزياء الكم. نظر أحدهما إلى الآخر ثم إليّ، وقال: ربما حان وقت الشعراء الآن. نحن بحاجة إلى شعراء".
وقال موظف سابق إن مجلس إدارة نيوم كان يتخذ القرارات بناءً على التصورات والرسومات، دون إجراء الدراسات التفصيلية التي تحدد ما إذا كان التنفيذ ممكنًا، وأضاف "كانت الرسالة هي: عليكم الآن جعل هذا المشروع قابلاً للتنفيذ."
مدينة ستلتهم العالم
قد يمنح الحجم مزايا في البناء، أما في حالة "ذا لاين"، فكان عبئًا طاغيًا، فمتطلبات المواد الهائلة له كانت كفيلة بإرباك قدرة البنية التحتية المحلية على الاستيعاب، وإضعاف القدرة على ضبط الأسعار.
وقال موظف سابق عمل على بناء وحدات "ذا لاين" إنه لصنع الخرسانة الخاصة بأول 20 وحدة، كان المقاولون سيحتاجون إلى إسمنت أكثر مما تنتجه فرنسا في عام كامل.
كل وحدة بطول 800 متر كانت تتطلب، وفق التصميم، نحو 3.5 مليون طن من الفولاذ الإنشائي، و5.5 مليون متر مكعب من الخرسانة، و3.5 مليون طن من حديد التسليح، وقال مدير تصميم رفيع "كنا سنستهلك نحو 60% من الإنتاج العالمي للفولاذ الأخضر سنويًا، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار".
كما كانوا بحاجة إلى ما يعادل الإنتاج السنوي بالكامل لأكبر مصنع للكسوة في العالم من اجل تغطية الواجهات، وقال أحد المعماريين "إذا أردت شراء كل مواد الكسوة في العالم، سيرتفع السعر"، وأضاف مدير إنشاءات كبير "ستدفع سعرًا أعلى لهذه المباني. أنت تأخذ جزءًا ضخمًا من القدرة الإنتاجية العالمية".
وفي المقابل، لم يكن هناك سوى ميناء صغير وهادئ على بعد 80 كيلومترًا جنوب نيوم، متصل بموقع البناء عبر طريق ثنائي، كما تُظهر صور الأقمار الصناعية.
وتُظهر صورة مولَّدة حاسوبيًا جدارين مرتفعين عاكسين يمتدان من الصحراء إلى البحر، يشكّلان مدخلًا مائيًا ضيقًا تتوقف فيه القوارب، بمياه فيروزية اللون، وترفع رافعةٌ عمودًا أسطوانيًا طويلًا وسط معدات الحفر والآليات الثقيلة فوق ساحة إنشاءات، مع منحدر ترابي مُدرَّج خلف الموقع، كما تُظهر صورة أخرى مولَّدة حاسوبيًا هيكلًا معكوسًا يمتد عبر أرض قاحلة، يضم مارينا مستطيلة مزدحمة بسفن الرحلات البحرية واليخوت.
داخل المبنى، تصوّر المصممون سلسلةً من الأبراج الخرسانية - أو “النُّوى” - تتباعد فيما بينها بمسافة 140 مترًا، وتحتوي كل نواة على مصاعد وسلالم وممرات للخدمات، وكل مئة متر ارتفاعًا توجد منصة بعمق 16 مترًا تُسمّى “المنصة الأساسية”، وهي تشكّل الهيكل الأفقي.
وعلى هذه المنصات، كانت الجادات ستمتد على طول ذا لاين كله، وقد شبّه هيكي، مسؤول تطوير ذا لاين، هذه الجادات بشوارع مانهاتن الواسعة، وقال في وقت سابق من هذا العام "الجادة السادسة على ارتفاع 150 مترًا، السابعة على 250 مترًا، والثامنة على 350 مترًا، وهكذا".
وكان من المقرر أن تقف مبانٍ يصل ارتفاعها إلى 80 مترًا فوق كل منصة، ويمكن للمطورين هدمها وبناء غيرها مكانها في القرون المقبلة.
وجرى إنشاء نظام تسليم يعتمد على الوصول في الوقت المناسب للمحافظة على وتيرة فعّالة في البناء، فصُممت جميع القطع بما يتيح وضعها داخل حاوية شحن قياسية بطول 40 قدمًا، على أن تُركَّب المنصات في ساحة تصنيع ضخمة بجوار ذا لاين.
وقال مدير التصميم التنفيذي "كان الأمر يشبه بناء السفن في الأيام القديمة".
وتم توحيد الوصلات والتثبيتات، وتلوينها، لتسريع عملية التركيب، وقال مدير البناء التنفيذي إن الشركة التي طوّرت هذا الأسلوب قامت بـ "عمل رائع بكل معنى الكلمة".
وكانت وتيرة التسليم المتوقعة استثنائية، فقد قال مدير البناء إن بناء 12 وحدة بحلول عام 2030 كان يتطلب وصول حاوية بطول 40 قدمًا كل ثماني ثوانٍ، على مدار 24 ساعة يوميًا.
وكان المخططون الرئيسيون ينسّقون بين 75 فريقًا من المعماريين لتصميم الأحياء المختلفة داخل ذا لاين، وكان من المفترض أن يكون كل حي مميزًا عن الآخر، بل شملت المقترحات قصرًا ملكيًا بارتفاع 500 متر، وقال هيكي في دافوس:
"المشروع يضم مستشفيات وجامعات - إنها مدينة متكاملة"، وسيسمح البناء العمودي للسكان بالعثور على كل ما يحتاجونه خلال خمس دقائق فقط.
وكان نظام قطار خفيف داخل الطابق الرئيسي لـ "ذا لاين" سيتوقف كل 150 مترًا، وستسير الحافلات والكبسولات ذاتية القيادة على السطح، إضافة إلى الجادات المخصّصة للمشاة.
وكانت سلالم ضخمة وممتدة تربط المساحات العامة الواسعة. وقال أوليفييه برون، مدير الفنون في هوليوود الذي وضع التصميم المفاهيمي لـ "المارينا المخفية": "يمكنك أن تخلق مناظر خلابة بالفعل".
لكن الضوء الطبيعي مثّل مشكلة، فقد كانت معظم المساحات العامة تقع في منتصف المبنى، وهو موقع يفتقر إلى ضوء النهار، بحسب مصمّم عمل على التصميم التفصيلي للأحياء، وكان الملعب ـــ الذي يمتد على كامل عرض "ذا لاين" ـــ يلقي أيضًا بظل هائل على الأقسام الأخرى.
وكانت الحدائق تُعدّ علاجًا للعيش بكثافة سكانية عالية، غير أنها اضطرت إلى أن تُحصر في "شفرة" واحدة فقط من المبنى، في الجهة المطلة على الوادي، أما باقي أجزاء الهيكل فلم تتلقَّ القدر الكافي من الشمس.
وكان لا بد من إعادة التفكير في العديد من عناصر "ذا لاين" من الصفر، إذ تحوّل كل من المياه والصرف الصحي وتوصيل البريد وأنظمة التأمين وإزالة النفايات إلى تحديات فريدة في مدينة عمودية، وفرضت السلامة من الحرائق إعادة تصور كاملة: فبدلًا من الإخلاء نزولًا إلى الخارج، سينتقل السكان جانبًا نحو المباني المجاورة يمينًا أو يسارًا عند الطوارئ.
وقارن جيمس ميدلينغ، من شركة "موت ماكدونالد" الهندسية والمسؤول عن البنية التحتية للمدينة في المشروع، العملَ في «ذا لاين» بابتكار المصباح الكهربائي الذي غيّر طريقة حياة الناس.
وقال خلال مؤتمر "سيتي سكيب غلوبال" في الرياض عام 2024: "تُتاح هذه الفرص يوميًا في ذا لاين. وفي بعض الأحيان يتطلب الأمر طموحًا وشجاعة".
وأُعيد تخيل السفر إلى المطار أيضًا، فقد لاحظ أحد كبار المهندسين المعماريين، ممن يمتلكون خبرة واسعة في مشاريع النقل، شيئًا غير مألوف في تصميم محطة القطار فائق السرعة: كانت الأرصفة والمصاعد أصغر بكثير من المعتاد، كما لم تتضمن القطارات رفوفًا للأمتعة.
وبعد الاستفسار، قيل له إن المحطة "لم تُصمّم لأي ركاب يحملون أمتعة" من المطار، وكانت الخطة تقضي بأن يرسل الناس أمتعتهم عبر نظام منفصل، مع استلامها من أمام منازلهم، فسأل المعماري: "ومتى ينبغي أن تضع حقيبتك عند الباب؟" فجاء الرد: "قبل رحلتك بثماني ساعات".
ولم يكن أي جزء من عملية التخطيط أكثر تعقيدًا من قطاع النقل، فقد كان يجب أن تُبنى البنية التحتية بحيث تستوعب "ذا لاين" عندما تتحول إلى مدينة مزدهرة — حتى لو بدا ذلك هدفًا بعيد المنال.
وبدا أن الطموحات لا حدود لها، وقال أحد المخططين "أخبر شخصٌ ما [محمد بن سلمان] في وقت مبكر جدًا أنه يمكن أن يحصل على قطار فائق السرعة من المطار إلى الساحل خلال 20 دقيقة، فقرر أنه يريد واحدًا".
كان هناك عقبة، فقد افترض تقدير مدة الرحلة بعشرين دقيقة أن القطار لن يتوقف على طول الطريق لاصطحاب أو إنزال الركاب، وأضاف الشخص: "القطار فائق السرعة يعمل فقط عندما يكون له مسار طويل ومتصل، وبدونه، فلا حاجة له"، وأضاف "مرة أخرى، كان هذا من تلك الأحلام المستحيلة التي لم يكن مسموحًا بمناقشتها".
وكانت المارينا، التي حُفرت بعمق يكفي لاستيعاب سفن الرحلات الضخمة، أكثر قابلية للتطبيق على الورق منها على أرض الواقع، وقال المخطط إنها "لا تعمل"، إذ كانت المياه تفتقر إلى تيار طبيعي، ما يعني أنه بدون أي دوران صناعي ستصبح المارينا راكدة وتشكل خطرًا صحيًا محتملاً.
وكان جواب نيوم هو تركيب مضخات ضخمة، يجب أن تعمل على مدار 24 ساعة يوميًا، و365 يومًا في السنة، وأضاف المخطط "نظرًا لحجم المارينا والمسافة إلى الساحل، فهذا مشروع ضخم".
كما بدأ البناء في مطار نيوم الدولي في الطرف الشرقي لـ«ذا لاين» — والذي يضم خمسة مدارج، وكان من المقرر أن يكون قادرًا في النهاية على استيعاب ما يصل إلى 100 مليون مسافر سنويًا، مع تخصيص أحد المدارج للطائرات فوق الصوتية، لكن تم اتخاذ قرار لاحقًا بإعطاء الأولوية لمطار خليج نيوم القائم، بالقرب من ساحل البحر الأحمر، لكون موقعه أكثر جاذبية للسياح، وفقًا للمهندس المعماري الكبير.
أما مطار نيوم الدولي، فقد تم إيقافه إلى أجل غير مسمى، وبحسب المهندس المعماري الكبير، "بدونه، لا جدوى من حفر ذلك النفق تحت سلسلة الجبال، ولا جدوى من تنفيذ القطار فائق السرعة"، ومع ذلك، فقد تم إنجاز جزء كبير من أعمال الحفر والأنفاق، ولم يتم حل بعض تحديات التصميم. فقد كان من شأن «ذا لاين» أن يعيق مسارات الهجرة عبر الجبال لعدة أنواع من الثدييات، كما أنه يعبر مسارًا مهاجرًا تستخدمه ملايين الطيور المتجهة جنوبًا من أوروبا وآسيا لقضاء الشتاء في إفريقيا، بما في ذلك أنواع مهددة بالانقراض مثل النسر المرقط الأكبر وحمامة السلحفاة الأوروبية.
وصنف خبراء الحفاظ على البيئة "ذا لاين" كـ "قضية ناشئة تثير القلق على التنوع البيولوجي العالمي" في أوائل عام 2024، وأضاف مشروع مزرعة رياح مخطط شمال «ذا لاين» إلى المخاوف، وقال المخطط: "إذا لم تتعرض الطيور للقطع والتقطيع عند المرور عبر توربينات الرياح، فستصطدم بواجهة معكوسة بارتفاع 500 متر".
وأضاف المهندس المعماري الكبير: "جلسنا في مئات، حرفيًا مئات الاجتماعات حول الطيور"
واقترح المصممون طريقة الفريتنج - وهي طباعة نقاط خزفية صغيرة على الزجاج - لجعل الواجهة أكثر وضوحًا للطيور، لكن ليفيو ري من المعهد السويسري لعلم الطيور شرح أن هذا لن يحل المشكلة، وحتى لو رصدت الطيور العائق، فإنها "ستضطر للطيران 90 كم على طول ذا لاين لتتجنبه".
وأوضح موظفون سابقون أنه من الممكن إنشاء فتحات كبيرة في الواجهة، سواء على مستوى الأرض أو أعلى المبنى، للسماح بمرور الثدييات والطيور، لكن ري أوضح أن الطيور تهاجر على ارتفاع حيث توجد الرياح الخلفية، وقد يختلف الارتفاع، وأضاف: "بعض الفتحات في المبنى لن تحل المشكلة على الإطلاق".
تقلّص الطموح
ولكي يلتزم المشروع بموعد 2030، بدأ العمل سريعًا، فبدأت أعمال الأساسات في ربيع 2022 رغم عدم انتهاء التصميم التفصيلي، وللتعامل مع عدم اليقين، جعل الفريق القواعد ضخمة، بقطر 2.5 إلى 3 أمتار.
وقال أحد المختصين بالبناء "بعض هذه القواعد من الأكبر في العالم، إنها هائلة".
عملت 60 آلة أساسات على مدار الساعة، ووضعت يوميًا نحو 60 إلى 65 قاعدة، وقد تم دق حوالي ستة الاف قاعدة على امتداد كيلومترين من الصحراء، بتكلفة عدة مليارات من الدولارات، وقال مدير البناء "فعلت فقط ما اعتقدت أنه منطقي".
لكن بينما كانت هذه الأعمال تُنفّذ، كانت خطط ذا لاين تتقلص، فقد بدأ صندوق الاستثمارات العامة، مالك نيوم ورئيسه محمد بن سلمان، يعيد تقييم الالتزامات المالية في ظل انخفاض أسعار النفط.
تقلّص عدد الوحدات المخطط لها من 20 إلى 12، ثم إلى 7، ثم إلى 4، وفي نهاية 2023 انخفض إلى 3 وحدات فقط.
وقال مدير البناء "عندما انخفض العدد إلى ثلاثة، لم تعد الستة الاف قاعدة ذات فائدة، وكان هذا نتيجة كلاسيكية لمحاولة الركض قبل أن تتعلم المشي".
ومع ذلك، احتاج المشروع إلى “كتلة حرجة” من السكان لجذب المستثمرين الخارجيين - بين ثلاثة مئة ونصف مليون شخص، أي سبع وحدات، وأضاف مدير البناء "حين ينخفض العدد إلى أقل من سبع، يصبح بيع المشروع للمستثمرين شبه مستحيل، لهذا السبب أعتقد أنه مات… إنه غير قابل للاستثمار".
وبدأ مسؤولون كبار يطلبون المزيد من التمويل، لكن ذا لاين كان يتنافس مع مشاريع أخرى داخل نيوم، ووضع بعض كبار العائلات السعودية مبالغ محدودة، بينما لم تصل الاستثمارات الأجنبية التي كانت الرياض تأمل بها.
وعند تلك النقطة، قال مدير البناء، أصبح مقتنعًا بأن ذا لاين لن يُبنى أبدًا، وفي منتصف 2023، أُطلق تدقيق داخلي يحمل الاسم الرمزي "مشروع القمر" لتحليل التكاليف والجدول الزمني، لكن المسؤول عن التدقيق واجه عراقيل وانسحب، بحسب أحد كبار التنفيذيين، وعندما نقل كبار الموظفين مخاوفهم إلى مجلس الإدارة، الذي يترأسه محمد بن سلمان، جرى تجاهلها.
ووصف موظفون سابقون ثقافة العمل بأنها تشبه قصة "ملابس الإمبراطور الجديدة"، فقد كان الاعتراض يُهمّش أو يعاقَب، ولم تصل التحذيرات إلى القيادة، وأصبح تعديل المسار مستحيلًا مع استمرار التدهور، وكانت العروض التصميمية تُجهّز لولي العهد، وقال المخطط "كان الشعور الأساسي في الغرفة هو الخوف، وكان الناس يكررون كل ما يقوله".
وأضاف "كان محمد بن سلمان يصل مع حاشتيه المكونة من اربعين إلى خمسين شخصًا، وعندما يبدي إعجابه بتصميم، يرد الجميع: نحبه، وإن لم يعجبه، يهزون رؤوسهم باستياء".
وقال أحد كبار المسؤولين "اعتقدت أنه مستبد، والمستبدون عادة لا يناقشون، لكنه كان يناقش، خصوصًا مع الأجانب، ومشكلته كانت عشقه للأفكار الخيالية والعلوم المستقبلية - وهذا ما حدث في ذا لاين".
ووصف عدة موظفين سابقين الأمير محمد بأنه ذكي، مجتهد، ولديه فهم عميق لمشاريع نيوم، وقال أحدهم إن نقطته الضعيفة كانت حبه للإبداعات الخيالية وعالم الخيال العلمي، وأضاف "هذا ما حدث في مشروع ذا لاين".
وأثار التنفيذيون العديد من الأسئلة مع الإدارة، وقال التنفيذي الكبير "قدمنا منذ البداية عدداً كبيراً من التحذيرات للتأكد من أن القيادة، خاصة على مستوى مجلس الإدارة، كانت على علم بهذه المخاطر"، من أين سيأتي الـ 9 ملايين شخص المتوقع أن يسكنوا ذا لاين؟ كم من الوقت يمكن توقع وصولهم بشكل معقول؟ هل يمكن بدء أعمال البناء والتصنيع بسرعة كافية؟ هل ستؤدي مستويات الاستيراد المطلوبة إلى ارتفاع حرارة الاقتصاد؟ ماذا لو انخفضت أسعار النفط، ما سيجفف المصدر الرئيسي للإيرادات في السعودية؟ وماذا لو لم تتوفر المواد اللازمة؟ وهل لدى الدولة الخليجية فعلاً الخبرة العلمية والتقنية لتنفيذ مثل هذا المشروع الضخم؟
ومع ذلك، كان الضغط لتسليم المشروع مستمراً بلا هوادة، وقال التنفيذي الكبير: "كان المجلس يتوقع من الرئيس التنفيذي أن يتحرك بسرعة كبيرة"، وأضاف مدير التصميم الكبير "تم إعطاء تواريخ للأمير محمد حول ما هو قابل للتحقيق، ولكن دون تفاصيل عن كيفية القيام به"، وعندما تم الإعلان عن تلك التواريخ، كان من الممكن أن يؤدي عدم الالتزام بها إلى فقدان المصداقية "وهنا تصاعدت التوترات".
وأضافوا أن الموظفين "وضعوا في موقف اضطروا فيه عملياً للكذب بشأن الجداول الزمنية وتكلفة تنفيذ الرؤية".
ما تبقى
يمكن رؤية ذا لاين - أو على الأقل بداياته - بالفعل من الفضاء، وتُظهر صور الأقمار الصناعية أعمال الحفر والأنفاق لنظام السكك الحديدية، وهو "العمود الفقري" الذي يربط ذا لاين بمطار نيوم الدولي، ويمتد لمسافة 150 كيلومترًا - من الساحل إلى جبال الحجاز.
وتظهر أعمال التسوية للمطار ومدارجه في وادٍ بين سلسلتين جبليتين، وقال المهندس المعماري الكبير: "بطريقة نيوم الحقيقية، هناك جبل في نهاية المدرج كان يجب تفجيره"، وقد توقفت أعمال البناء الآن على كل من العمود الفقري والمطار، ولم يتم تحديد هدف جديد للمطار.
كما تظهر أسس أول وحدات ذا لاين - وربما أكبر الركائز التي وضعها الإنسان على الإطلاق - في انتظار دعم أكبر مبنى مأهول في العالم، إذا تم إنشاؤه يومًا ما، وقد تم هدم قرية قيال، الواقعة على بعد بضع كيلومترات من "المارينا المخفية"، وتم سجن خمسة عشر من أفراد قبيلة الحويطات الذين احتجوا على إخلائهم، بعضهم لمدة تصل إلى خمسين عامًا، وحُكم على ثلاثة آخرين بالإعدام، وفقًا لمراقبي حقوق الإنسان.
في المارينا، كان الحفر قد أزال بحلول نهاية العام الماضي مائة مليون متر مكعب من التربة، ما يعادل اربعين هرمًا من أهرامات الجيزة الكبرى، وستصل السفن إليها عبر قناة تمتد أكثر من كيلومتر واحد داخل الساحل.
وما زال الثريا - المبنى المكتبي المقلوب المعلق من القوس العملاق فوق المارينا - موجودًا ضمن الخطط، لكن نيوم لم تعد تنوي إنشاء مقرها الرئيسي هناك، وقد اعترف نائب الرئيس التنفيذي لنيوم، ريان فايز، الشهر الماضي بأن ميزانية المشروع «تتطور يوميًا»، مضيفًا أنه من الجيد "إعادة تقييم ما نجح وما لم ينجح".
الهدف الآن لبناء ثلاث وحدات فقط من أصل عشرين وحدة كانت مخططة في الأصل، لذلك فأن الطموح للمرحلة الأولى من ذا لاين أصبح مجرد صدى ضعيف لما كان عليه سابقًا، وقال شخص مطلع على المشروع إن العمل توقف فعليًا، مع تركيز الجهود الآن على إكمال بعض المباني الصغيرة حول المارينا، وقد غُطي بعض أعمال الركائز المبكرة بالرمال.
وقال أحد خبراء التخطيط الحضري العاملين في السعودية: "أعتقد أنه كفكرة للتجربة الفكرية، فهو رائع، لكن لا تبنِ التجارب الفكرية".
------------------------
فايننشال تايمز البريطانية





