***
سأنشر حكاية صديقي "أبو صالح"، حارس الجبال والزيتون، أمام الشمس والناس. هو وَعْد، قطعتَه على نفسي أمام الشجر. لأنه نموذج مضيء، ومثال سامق جذّاب.
أعرفه كما أعرف ذكرياتي، فقد خبرته فترة طويلة، منذ كنّا في تلك الأيام المتوهّجة بالانتفاضة العبقرية العام 1988، معتقلين في غير سجن، وكانت إدارة الاحتلال تجمعنا لوضعنا في معتقل كبير واحد، بعد أن فاضت الجدران الصمّاء بالأسرى.. وتمّ نقلنا من معتقل الفارعة، في حافلة، معصوبي العيون، والكلبشات تدمي معاصمنا، إلى سجن "عتليت" الواقع بين الطنطورة وحيفا. وصلنا منتصف الليل، وبعد الإجراءات المُمضّة، أدخلونا إلى غرف السجن، الذي ذكّرني فور رؤيته، بسجن عكّا القريب، وثورة البراق، والشهداء الذين تسابقوا إلى المشانق فيه.
كانت غرف سجن عتليت أقرب ما تكون للعقود العتيقة أو البيوت ذات الأقواس الضخمة، مقسّمة إلى عدة غرف تفصلها قضبان حديدية غليظة وقاسية وقديمة.
أمضينا تلك الليلة، ليحملونا ظهر اليوم الثاني من حيفا، شمال فلسطين، إلى "كتسيعوت" جنوب بئر السبع، في قلب صحراء النقب، على الحدود المصرية.
وصلنا تلك الليلة، من أيار، وكانت الحافلة مكتملة العدد، ودخلنا المعتقل الذي لم يكن حينها إلاّ معتقلاً صغيراً مكوّناً من وحدة واحدة، أو ستة أقسام، تنام على الرمل وتصحو على عقاربه وأفاعيه التي عقصت ثلاثين سجيناً، ولدغت عشرين آخرين. وقتها كان لا بُدّ من أن يجتمع ذوو الخبرة من المعتقلين؛ سجناء سابقون، وطلبة جامعيون، وأعضاء نشيطون في الفصائل الوطنية، لتنظيم حياة المعتقل.. وبدأ بالفعل الترتيب لذلك.. وخلال أسبوع واحدٍ، كان النظام قد تمّ تعميمه، وتمّ تشكيل لجان النظافة، والمطبخ، والأمن، والفصائل، واللجنة الوطنية العليا، ولجنة الصندوق والطعام والنشاطات، خصوصاً أن المخضرمين في المعتقلات قد نقلوا جميعاً من سجن جنيد غرب نابلس، إلى معتقل كتسيعوت. وفي هذه الرحلة تعرّفت إلى أخي إبراهيم الحافي، وهناك نبدأ بنسج الحكاية، التي بدأت منذ عقود، وسنشارك في اللعبة الأزليّة بين القلم والنسيان، أو بين الماء واللون الداكن، وثمة مراوغة دائمة بين تلك الأسلاك الشائكة والغناء والصدى، لا يدركها إلاّ من ألقى السمْع للتصادي الدائم.. فتجيئه أصوات النجوم، وناي العازف الجريح، وخرير النار عند ظهيرة المتاريس الجامحة. كانت لهفة الرجل طاغية للحرّيّة الهاربة، وبادية للرّائين، إذ كان يهجس بتلك البقعة المُتخيَّلة،في أرض جبليّة سيحيلها إلى فردوس بسيط.
والطبيعة كائن حيّ طائش كريم فيّاض، كأنها امرأة تنتظرُ زوجها البعيد، وهي وحيدة في على كتف التلال، أكملت زينتها واحتدّت، وانفرجت.. وتنتظر العسل الماتع!
أوّل ما أدخلونا المعتقل، أمرونا أن نخلع ملابسنا، فبقينا بالملابس الداخلية، وبدأوا بتوزيع قميص وبنطال على كلّ واحد، فاكتشف إبراهيم أن قميصه واسع وكذلك البنطال.. فقمنا بتبديل ما أعطونا، وكانت ملابس مبريّة متهرّئة وتطفح برائحة الرطوبة وتعجّ بالبقّ والقمل!
وتصاحبنا في تلك البقعة الجهنّمية، وصرنا، ضمن مجموعة كبيرة، صديقين، لا يفترقان إلا ساعة العمل، فلكلّ منّا مهمّته في المعتقل. وأذكر كيف تفتّح وابتهج يوم أخبره أحدهم، قد اعتقل لتوّه، من بلدتهم، أن زوجته قد وضعت حَمْلها وكان صبيّا! وبعد شهر جاء المحامي لزيارتنا، فأخبره أن امرأته وضعت طفلةً أسموها "صابرين"، وبشّرني المحامي، أيضا، أنني رُزقت بطفلة لها اسم "نوّار".
كان يحاول أن يتخيّل صورتها الغامضة، فيغلق عينيه، لكنه كان يرى قمرا حليبيّا، يتخفّى خلف سحاب خفيف.. فيحزن! ربّما كان يحمل همّ الوالدة، التي غاب عنها زوجها، كرْها، ولم يقف خلف باب غرفة التوليد، يتمتم بأدعية الخلاص، ثمّ يُسارع لتهنئتها بالسلامة وتحقيق المراد.
أبو صالح - هكذا كان يطيب له أن نناديه - خفيف الظلّ، حسّاس، مبادر جسور، مخلص وكتوم، إذ كان من القلائل الذين عملوا على هندسة العمل الوطني، والإشراف على قيادة منطقته، إبّان الانتفاضة، دون تشاوف ومراءاة.
وابراهيم "أبو صالح" اللاجئ إلى بلدة شويكة، هو أصلا من بلدة "قاقون"، التي كانت بيدرا ربيعيا فيّاضا.. لا ينتهي، شمال غرب مدينة طولكرم. فافتقد البيتَ والأرض والأغصان، وكبر وفي نفسه شيء من الحقول. لهذا؛ كان هاجسه أن يتجاوز فكرة "المؤقّت" ليحسّ بأنه أكثر رسوخا مع أرض يفلحها، ويعود منها، مساءً، مدبّغا بالطين والملح البارد، ويضجّ برائحة المواسم وفحولة الطمي والبتلات.
ربّما جفّ حلق الأرض، في الضفّة الغربية، بعد أن هجرها معظم أصحابها، خوفا من الدّهْم والبنادق المجنونة العنصرية، وذهبوا إلى الورشات، تاركين الزيتون واللوز دون رعاية وزيارة واجبة.. فانتبه الرجلُ إلى ضرورة أن يعود إلى حيث ينبغي أن نعود، أعني؛ إلى الأرض، لنجعلها جنّات وحدائق، حتى لا يطمع الغريب بها أو يستسهل السيطرة عليها.
إن مأثرة إبراهيم تتجلّى في أنه أحيا الأرض المُهمَلة. بمعنى؛ لو أنّ كلّ أصحاب الأراضي الجبلية الوعرة، قاموا وسوّوا أراضيهم، ونقّوها وزرعوها، ومدّوا إليها القنوات، وباشروها، واحتفوا بها..لأصبحت حدائق معلّقة، زاهرةً تبرق بالنماء، وتستضيف الأجنحة، وستدبّ حولها الحياة، ما سيمنع المستوطنين من غزوها أو التجرّؤ على افتراعها والسيطرة عليها، لأن أهل الأرض يقيمون عليها، يحمونها بمعاولهم وثمارهم وحصى طرقاتهم.. وسيغذّون الخطى في المواسم، لإحياء أعراس الأرض، وإشاعة الحراك الصاخب بين الشواشي وتحت الأفياء. ولو أن سكان القرى والبلدات تنادوا، وأعلنوا عن بدء موسم قطاف الزيتون، مثلاً، ودعوا طلبة الجامعات والنُخب والقيادات المجتمعية والمؤسسات الأهلية، للمشاركة، لشكّلوا حالةً، يصعب معها أن يقوم المستوطنون بسرقة الزيتون أو خلعه وإحراقه، أو منع أصحابه من قطافه. وأذكر أننا في الجامعات الفلسطينية، كنّا لا نتخرّج قبل أن نعمل مائة وعشرين ساعة عمل طوعي، وكانت مجالس الطلبة توجّه مجاميعها للتطوّع في موسم الزيتون، ما يجعل الجبال والتلال تعجّ وتضجّ بالأيدي الناشطة الحاضنة للزيتون. فأين ذهب الطلبة؟ وأين راحت تلك المواسم؟ ومَن أضاعها؟ وأين القوى والفصائل والاتحادات والمجتمع المدني والإعلام والكتبة.. حتى بات "فتية التلال" من المستوطنين الصهاينة، أصحاب اليد العليا على أرضنا ومقدّراتنا؟! فخسرنا حنّوننا وليموننا وزيتوننا وكرومنا وكرامتنا.. وصرنا مشلولين نتلقّى الإهانات، فلا تهتزّ لنا قصبة!
لقد نشف التراب، طويلا، وتشقق الشرش من العطش، ونادى الدمُ الفوّارُ، النسغَ الكامن في السيقان الممشوقة المجاورة، وترمّدت جمرة الجرّة من صقيع الإهمال، في السّهول التي تفرّخ فيها الحيّات. وربما أراد أبو صالح أن يتوسّد الحَجر، فكان كقطعة الثلج، وكانيحلم بالأعراف النديّة، وبهبّة الموقد والسفّود. فَجاء بفأسه وإرادته الحاسمة، بعد أن تحرّر من القيود، وبات رشيقا خفيفا.. إلا من أحلامه.
الأرض لوحة كولاج أنجزها القَدر وأنزلها لكلّ المخلوقات، لكنهم تاهوا في شِعابها وألونها وبين مكوّناتها، ولم يجدوا في الخراب ما يوصلهم إلى النوم. فقد ارتفعت شآبيب النار، واحترق الليل تماماً، ليجدوا رماداً بين أقدامهم المعفّرة بالضياع. أما إبراهيم؛ فإنّ له جذراً ينهض عليه، ويباهي أترابه به، لأنه الأصيل الموسوم بالعراقة، والطالع من بذرة الخصوبة الولاّدة المُعافاة، ومن حكايات الحج صالح والده، الذي كان يقعد ويقوم على سيرة قاقون، فأتى ولدُه، كما سنراه، تفاحة لامعة، أو غصناً ينوء بثمره، أو نبعة رائقة مدرارة، أو زهرة بتول لها معالمه.. وسيتعلّم عربشة الجبال والتلال، وملاحقة الفَراش والحَجل البرّي وأعشاش العصافير البريئة.. وسينادي الأظلاف والحوافر، لتشاركه الطعام.
يقول الحج صالح: قاقون بلدة عامرة بالأسواق، على طريقها حوض ماء للسبيل، وفيها خان يأوي إليه المسافرون. كانت مركزا للبريد ما بين القاهرة ودمشق، ومحطة للحَمام الزّاجل على الطريق نفسه.
وحين قدم نابليون من مصر وسار بالعسكر قاصدا عكّا، ووصل إلى أراضي قاقون، كمنوا له وأمطروه بالنار، فتراجع عنها، وسلك سبيلا ثانيا. وخلال ثورات الثلاثينيات، كانت قاقون ملاذا للثوّار، الذين ناجزوا الانتداب والعصابات، وسيق بعضهم إلى المشانق في عكا.
وفي عام (1948م) كان أهالي قاقون مستعدين دوما للتصدي لأيّ عدوان، رغم أنه لم يتوفر للمناضلين فيها سوى (55) بندقية ورشاشان، وقد نشبت بين سكانها واليهود العديد من المعارك، خلال الأشهر الخمسة التي سبقت النكبة.. وسقطت قاقون بأيدي اليهود بعد أن استشهد 40 رجلاً من أهلها.. ولم يبقَ من معالمها إلا القلعة التي تتوسط مجموعة من الأحجار، هي أنقاض وبقايا المنازل ومبنى المدرسة، الذي لا يزال يستعمل حتى الآن من قبل الإسرائيليين كمدرسة، وبئر ماء، وهناك جنوبي التلّ شجرة توت كبيرة وأجَمة صبّار، تنتظر عودة الأهل إلى أرضهم الأولى..
وندخل مع إبراهيم إلى جنّته الجديدة، التي حملت عن قاقون أحلامَها، إذ يبحث اللاجئ عمّا يعوّضه مما ضاع منه، ليحسّ بأنه ملّاك، له بقعة تتّسع لمحراثه وأشتاله وأحفاده. ندخل إليها فرحين! فنلحظ أسواره الحجرية التي تطوّق المدى الأخضر، وسيعلن الطنين الهاديء عن ذاته! والماء يعلو إلينا، وفيه مالا يُحصى من النيازك ورذاذ الماس.. وكنّا نشرب، ونصبّ منه في الإبريق السخيم الملفّق فوق الحطب الوقّاد، ونعدّ الشاي بالميرميّة العابقة أو الزعتر عراق (الزعيتمانة)، فتبكي أمُّها الصخرة، بهجةً بأننا أخذنا بعض زغب خاصرتها الممرعة.
نمشي بمحاذاة الغراس والمساكب اليانعة، والحارس بعصاه الطويلة يخبّ معنا، يشرح عن هذه وتلك، ومن أين جاء بها وكيف بلغت الولادة وضوّعت أزهارها الواعدة. ونعتذر بصمتٍ لأيّ عشبة، ربما دعسنا على إكليلها! وانظر إلى وَجه الحارس فإذا به على حاله، مستبشراً، راضياً مطمئنّاً، بوجهه الذي رنّقته الشمس بعَرق الفرح، ونلهج للجذور بالثبات! ثمة نسب بين بيوتنا وبين الشجر!
في كلِّ زاوية شجرة ليمون، تين، زيتون، رمّان، نخيل، أسكدنيا، عريشة عنب، لوز، بجانب أحواض النعناع والميرمية والرّيحان، عداك عن أشتال الباذنجان والفلفل والكوسا والليف والقرع، إضافة إلى شجيرة ياسمين أو فُلّ، أو مجنونة تتعالق مع جدار صخريّ.. والأغرب أن ثمة وروداً من غير نوع ولون، وكلّما دخل إبراهيم الأرض، تتفتّح ورودها! ولمّا يهمّ بالرّواح والمغادرة، تغلق أوراقها وتنام، كأنها لا تريد أن ترى غير صاحبها. وكلّ ذلك، وأهل الجنّةِ يوجّهون مياههم الرمادية نحوها، وغالباً ما يتوضّأون عند جذوع الأشجار، كأنهم يروونها بماء مقدّس. ولهذا؛ فإنك، وفور عبورك إلى الأرض، تجتاحك غيمةٌ لا تُرى من طاقة ماتعة إيجابية، تعيد لمفاصلك الرشاقة، وتدبّ في أوصالك الهمّة والنشاط.
إن العمل بهذه الأراضي والجبال المصنّفة بمناطق (ج)، يتطلّب شجاعة وإصراراً، ويحمل مخاطرة بالغة، وخصوصا بعد أنْ تغوّل الجنود وتوحّش المستوطنون، بعد السابع من أكتوبر، وراحوا يعيثون حَرْقا وخلْعا وعربدة، في القرى والمزارع، والفلّاح الفلسطيني وحيداً في هذا المناخ الملغوم، يمارس رباطه المقدّس، ويواجه، ما أمكنه، هذه الاستباحة الرّعناء اللاهبة والدموية.
ولطالما توجّه أبو صالح مع بعض أهله إلى الأرض، فاعترضهم الجيش المنفعل المذعور، شاهرا بنادقه في وجوههم، ما اضطرهم للعودة، أو أن يسلكوا ممرّات شائكة وبعيدة ليصلوا إلى جنّتهم، التي سيفرشون على بساطها فراشَهم البسيط، وتبدأ أُمّ صالح بإعداد الطعام على نار الموقدة، ما يجعلها صورةً متجددة من عناة الأولى، التي ولدت الكنعانيين، وطبخت على نارها لهم، أطباق البلاد، الحاضرة من خضر الأرض وفاكهتها. إن أرغفة الزعتر أو الصاجيّات والمفرّكات والمقالي الفوّاحة، التي تجود بها أُمّ صالح، إنّما تبعث سيرة ثقافتنا الاجتماعية بحذافيرها، كأنها تواجه الاستلاب، بل وتؤصّل مدارك أحفادها بطعوم وروائح فلسطين الخالصة من الشوائب.
والعودةإلى الأرض وحمايتها وزراعتها وفلاحتها، وعدم التفريق بين التصنيفات التي فرضوها علينا، هو واجب وطني ودينيّ مقدس، وعلى الجميع أن يدعم هذه النماذج، وإنْ معنويا، فالكلمةُ الطيّبة هي يد الله على كتف الإنسان.
لقد أعاد أبو صالح الطابون الطينيّ والكانون الحجريّ وجرّة الفخّار، وأرجعنا إلى مذاقاتنا المبكّرة التي تلمّظنا بها، قبل عقود. وأرجع للمشهد أدوات العمل الريفية التقليدية، ما يعني تمسّكه بعاداتنا وتقاليدنا وأهازيجنا الشعبية، كلّما دعا أولاده وأصدقاءه وأنسباءه إلى تلك اللّمة، التي تحملهم إلى العتبات النورانيّة من الطفولة، وإلى هياج النار الوضّاءة، التي تشتعل بدلعونا وظريف الطول، ونداءات العاشق للحبيب.. وعندها؛ سترى كيف أن الجبال ترقص وتتمايل بأشجارها، مثل شال العروس الخلّاب.
إنّها "سُرَّ مَن رأى"! لقد أطلق أبو صالح هذا الاسم على أرضه الجبليّة، التي جعلها أيقونة خضراء، ليفرح مَن يراها ويتنسّم طِيْبها ونَشْر عطورها.
يا ابراهيم! يا طفلاً ساحراً أخذته الجذوعُ إلى مخدعها فاكتشف أنها أُمّه، فغطّت بدنَه بالأوراق، وشدّت ثوبها على جسده، وأبعدت عنه الهوام وحرقة الناغريّة.
إنّ للأشجار مزامير تسبّح لله الواهب الجواد، وأناشيد للطير، حتى تقيم وكناتها بسعادة بين الغصون.
إنّ الذين أهملوا أراضيهم، خوفا.. إنّما يقدّمونها سائغة بشكل مجانيّ للقاتل المتعجرف، الذي لم يجد مَن يصدّه! وإن مَن يرى شعبه عاجزا، ولم يبادر للمنافحة عنه، إنما هو شريك للقاتل، بعجزه وصمته المشبوه. وإن مَن يمتلك شبرا من الأرض في فلسطين، ويتركها.. إنّما هو جبان مداهن، يذهب إلى الفناء والسقوط في العدَم، بغبائه وذعره غير المبرّر.
لقد أشرف القمر على سُرّ مَن رأى، واصطفّتِ الكواكب فوق الغيوم،وترقرقت الأمواه على ألواح السماء الدرّية، فسقط الرّهام يتغشّى البراعم الزاهية، واكتملت اللوّحة، كما أراد الحارس الرسّام.
وابو صالح يحمد الله تعالى، على سلامة الطير الرّاجع إلى أرضه بعد غياب، كأنه النبيّ سليمان الذي يتفقّد طيوره وأهل جنّته، ويحرص على اكتمال الحضور؛ من ذيّال طائر، إلى غزال رشيق، إلى نملة هانئة.. يدعوها للبقاء معه، حول المدخنة، أو بين الشقوق الرّطبة الحجرية، أو في الساحات المعشوشبة.
لم يشرب إبراهيم كأس اليأس، ولم يبك أو ينتظر "جودو" الذي لن يأتي.. ولم يُؤلّف مرافعة للبكاء، تبرّر هجرة مَن تركوا الأرض، فظلّوا مهزومين، مثل الفراخ العاجزة. لكنّه هبّ مثل باشق، حفر بقوادمه التراب، وعبّأه بالغصون والخوافي.
مَن ترك أرضه فقد خسر كلّ شيء؛ شرفه وكرامته ودينه ومبرّر وجوده!
فعندما ألتفتُ إلى جبل إبراهيم الممرع، أجده قد أطعم بعض قلبه للكائنات. ولا أحد يحفظ الأرض إلا حفظته.
هو الذي يُبالي وهم غافلون. وهو الذي يحمل القصعة وأمعاؤه تتلّوى، وهو الذي يصبّ على رؤوس الصخور والطيور والشجر، الَبَرَدَ، ويكاد الصّهد أن يأكل وجهه.
يا صديقي الجميل! لم أجد في الأغاني متّسعاً، إلا وقت مصادفتي لفضاء بيّارتك الجبليّة.
أتخيّل أنكَ على تلك الصخرة الملساء، التي تتمدّد راحةً فوقها.. والأرواح الجذلى من حولك كأنها أطياف نور.. وتقف على كتفك وتحدّثك كما أحدّثك، وتقصّ عليك حكاياتها وذكرياتها.. فتقول لي؛ ها أنذا أنام عميقاً في أرضي، كأني أسقط على وسائد الجنّة، وأتمتّع بمشاهدها الباذخة الفاتنة.
لقد رأيتَ، غير مرّة، المستوطنين بحراسة الجنود، يقتحمون الربوع المتروكة، فيشعلون اللهب في النتش والزيت والبطم والزعرور.. فتشفق على صغار الأرض المختبئة، وتراهم بسواطيرهم والبلطات، يشجّون رأس الرمّانة، وقد شلخوا أغصان اللوزة، وبقروا بطن الخرّوبة.. كنتَ متحجّراً كأنكَ تكلّست وتجَمّدت.. وسرعان ما انتفضتَ غضباً على هذه الاستباحة السّاديّة، والدم يشخب من الشجر على الأرض.. وخرجوا، ليعودوا، بعد أن أحرقوا الجبل بمَن فيه! وصرختَ حتى تصادى الصوت؛ أين أنتم يا أصحاب الشجر والحجر؟!
أذكر أنني قابلت الفَراشة الثملة، بعيداً هناك على ضفّة النهر الصافي، في الشمال البارد البعيد، وأكلت معها طبقاً من الثلج الملوّن.. ولم نلتقِ من سنين. وعندما جئتُ أرضكَ، قابلتها وجهاً لوجه، فتحسَسْتُ مكامن العطر، فَاحْمَرّ وجهها، وغمزتني.. واختفت.
إن فوضى أصوات الفتيان الأحفاد على التلال، ساحر، عابق بالسُكّر، وأراك تُجفّف الماء من على جبينك، وتقهقه.. لأنّ الصغير ارتمى في حضنك، وسيحمل ندبةً صغيرة في ركبته، ستذكّره بأيام الجنّة الأولى.
ومع هذه الأرض، لن ينسى أبو صالح هجرةَ أولئك الذين اقتلعوهم وأخذوا أغانيهم وأغنامهم وحقول القثاء منهم، وأحرقوا مقابرهم في الهزيع، وشربوا الزّقّ على جثث قراهم.. بل ستذكّره، كلّ لحظة بحقل أبيه الذي انطبع في مداركه مثل وشْم عميق.
ولمّا ترى الريحان وورق الجوري النائم بين الظلال، ولباليب ورق الليمون الطّري، ستتذكّر قصص جدّتك عندما كانت تضع كلّ ذلك في شاشة قماش رقيقة، وتلفّها وتطويها وتدسّها تحت إبطيها أو بين السّاقين، وتشدّ سروالها عليها.. فتأتي الغابات في زفّة رانخة، يغطيها المطر الشرس.. فيخرج النحلُ من الأكمام، ويزهر الفِراش.
والحنّون المُضمر في الثوب المُسدل على أكتاف الشجرة الماشية، هو معزوفة سماوية ترحب بالطيور، وتدعوها للحياة.
وقد تخرج تحت المطر الهطّال، لتصل إلى الأرض، فقد اشتاقت إليك! وستفتح قميصك للزّخّ، وترفع رأسك نحو الرّعد، كأنك تعبّ الغيوم وتتنفسّ أقواس قزح، وتغتسل بالسحاب.. وستعود، والبخار يتفشّى حولك، وينضح منكَ البرعم المستحيل.
وما فتئ حلمك غضّا، يمور بماويّة وعصارة مضيئة، تنتظر اللحظة التي ستقيم فيها بيتكَ الريفيّ وسط الأرض، على حضن الجبل، لتكون الأشجار هي الستارة والمشهد معا، لعلك تغفو، دون قعقعة الغرباء والجنود والجرّافات والرصاص.. وستحلم بمواكب وأسراب لا تنتهي، لجموع تتجه نحو الساحل، لتستعيد بيوتها وبيّاراتها ودواوينها، وسترى الحجَ صالح يقودكم نحو داره.. وسيكون ذلك قريبا، إلى حدّ الدهشة والمفاجأة. فانتظر، فإنا معكَ منتظرون.
-----------------------------
بقلم: المتوكل طه






