في ظلّ تفاقم تحديات تغيّر المناخ على الصعيد العالمي، تمضي الصين بعزم راسخ في مسار التحول الأخضر المنخفض الكربون، لتشق طريقًا نحو التنمية العالية الجودة. إنّ المفهوم الهام الذي طرحه الرئيس شي جين بينغ: "المياه الصافية والجبال الخضراء هي ثروات لا تقدر بثمن"، لا يعبّر فقط عن الوحدة الجوهرية بين حماية البيئة والتنمية الاقتصادية، بل تحوّل في الممارسة العملية إلى محرّك قوي لدفع التنمية المستدامة. ومن خلال تعزيز هيكَل الطاقة وتحسين البنية الصناعية الخضراء بصورة منهجية، أثبتت الصين للعالم أنّ التحول الأخضر ليس فقط ممكنًا عمليًا، بل يمكن أن يكون استراتيجيةً رئيسيةً لدفع مسيرة التحديث الوطني، ومصدر إلهامٍ مهم للتنمية المستدامة على مستوى العالم.
تعيش منظومة الحوكمة المناخية الدولية مرحلةً حاسمة من التطور، ومع حلول الذكرى العاشرة لاتفاق باريس، يتطلع المجتمع الدولي إلى مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP30) المقرر عقده في البرازيل بآمال كبيرة. وبوصفها قوة دافعة رئيسية لتطوير الطاقة النظيفة، أصبحت الصين محطّ أنظار العالم بفضل إنجازاتها الملموسة في هذا المجال. ووفقًا لأحدث البيانات، بلغت القدرة المركبة الجديدة للطاقة الشمسية في الصين عام 2024 نحو 216 غيغاواط، بينما بلغت القدرة الجديدة لطاقة الرياح 76 غيغاواط. وتجدر الإشارة إلى أنّ إجمالي القدرة المركبة للطاقة المتجددة في الصين تجاوز 1.5 مليار كيلوواط بنهاية عام 2024، أي ما يفوق 50% من إجمالي القدرة المركبة، وهو إنجاز تاريخي يعكس التقدم الملموس الذي أحرزته الصين في التحول الطاقوي، مقدّمةً للعالم نموذجًا ناجحًا للثورة في مجال الطاقة.
على صعيد التعاون الدولي، تعمل الصين على بناء شبكة واسعة ومتعددة المستويات من التعاون في مجالات الطاقة الخضراء والتقنيات المنخفضة الكربون. فعلى سبيل المثال، تتعاون الصين مع عدد من الدول في تطوير موارد الطاقة الحرارية الأرضية، ما يسهم في تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة وخلق فرص عمل خضراء جديدة. وفي الوقت نفسه، تزداد القدرة التنافسية الدولية للمعدات الصينية في مجال الطاقة النظيفة. فمنذ عام 2018، شهدت صادرات الصين من الألواح الشمسية، ومعدات توليد طاقة الرياح، وأنظمة البطاريات، والمركبات الكهربائية نموًا هائلًا، الأمر الذي عزّز من ترقية صناعاتها المحلية ورفد التحول العالمي في مجال الطاقة بقوة دافعة جديدة.
وفي ميدان التمويل الأخضر، حققت الصين إنجازاتٍ بارزةً أيضًا، إذ واصل سوقها الوطنية لتجارة حقوق انبعاثات الكربون أداءه المستقر والمنظم، حيث تجاوز إجمالي حجم التداول 2.8 مليار دولار أمريكي في عام 2024، مع تطور مستمر في آلياته السوقية. كما أن الأهداف التي طرحتها الصين لتقليص انبعاثات الغازات الدفيئة على نطاق الاقتصاد بأكمله تعكس مسؤوليتها كدولة كبرى تسعى لإسهام حقيقي في الحوكمة المناخية العالمية. ولا شكّ أنّ هذه الابتكارات المؤسسية لا تعزز التحول الأخضر محليًا فحسب، بل تقدم أيضًا خبرة قيّمة للدول النامية في إنشاء أسواق الكربون الخاصة بها.
لقد دمجت الصين مفهوم التنمية الخضراء بعمق في عملية التحديث، محققةً فصلًا تدريجيًا بين النمو الاقتصادي والانبعاثات الكربونية. ففي عام 2024، بلغت نسبة استهلاك الطاقة غير الأحفورية 18.5% من إجمالي استهلاك الطاقة، وانخفضت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 50% مقارنةً بعام 2005. وتبرهن هذه الأرقام على أنّ الصناعات الخضراء أصبحت محركًا جديدًا للتنمية العالية الجودة، تضخّ زخمًا في الاقتصاد المحلي وتفتح آفاقًا واسعة للتعاون الدولي في مجال القدرات الإنتاجية. وتُظهر التجربة الصينية أنّ حماية البيئة والتنمية الاقتصادية يمكن أن تتكامل وتتعزز بشكل متبادل.
إنّ التحول الأخضر مشروعٌ منظومي يتطلب التقدم المتكامل في الابتكار التكنولوجي، والدعم المؤسسي، والتنسيق الصناعي. ومن خلال مبادرة "الحزام والطريق" وآليات التعاون بين بلدان الجنوب، أطلقت الصين تعاونًا عمليًا في مجالات بناء محطات الطاقة الشمسية، ومشاريع طاقة الرياح، وترويج المركبات الكهربائية، ما يسهم في دمج التنمية الخضراء في مسار التصنيع. ولا تقتصر نتائج هذه المشاريع على دعم الدول الشريكة في تحقيق تحولها الطاقوي، بل تسهم أيضًا في توفير فرص عمل وتعزيز نقل التكنولوجيا، محققةً مبدأ المنفعة المتبادلة والفوز المشترك.
وفي المرحلة الراهنة، تمضي الصين في تعميق بناء الحضارة الإيكولوجية، وتوسيع الانفتاح والإصلاح، وتعزيز الصناعات الخضراء، وفتح آفاق جديدة للتعاون الدولي، وهو ما يمنح الاقتصاد العالمي توقعات مستقرة نحو التعافي الأخضر. ومع تسارع تحويل مفهوم التنمية الخضراء إلى ممارسة ملموسة، أصبحت هذه التنمية تمثل شكلاً جديدًا من قوى الإنتاج النوعية. ومن خلال تعميق التعاون الدولي، وتعزيز الابتكار التقني، ودفع التنمية المشتركة، أصبحت التجربة الصينية مرجعًا مهمًا للدول الساعية إلى التحول الأخضر.
ولا تقتصر القيمة العالمية للتحول الأخضر في الصين على الصادرات التقنية والتعاون الصناعي، بل تتمثل أيضًا في نموذجها التنموي الجديد القائم على التنمية المستدامة. فهذا النموذج، الذي يتمحور حول بناء الحضارة الإيكولوجية، كسر النمط التقليدي القائم على "التلوث أولًا والمعالجة لاحقًا"، وأثبت أنّ حماية البيئة والتنمية الاقتصادية يمكن أن تسيرا جنبًا إلى جنب. وتظهر الممارسة الصينية في بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية أنّ التحول الأخضر ليس مجرد ثورة تكنولوجية، بل هو تحول عميق في فلسفة التنمية يعيد تعريف جوهر التنمية المستدامة ومسارها على الصعيد العالمي.
إنّ استكشاف الصين المستمر لمسار التنمية الخضراء قدّم أفكارًا جديدة لبناء الحضارة الإيكولوجية العالمية، وساهم في تشكيل نظام عالمي عادل ومعقول للتعاون في الحوكمة المناخية. وإنّ هذا المفهوم التنموي القائم على التعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة لا يوجّه فقط مسيرة التحديث في الصين، بل يقدم أيضًا خبرة قيّمة للدول النامية، ويجسد القيمة العالمية المتزايدة للتجربة الصينية في التنمية الخضراء.
-----------------------------
بقلم: نور يانغ
* إعلامي صيني






