05 - 11 - 2025

زهران ممداني: حين يهتز مركز نيويورك بصوت غزة

زهران ممداني: حين يهتز مركز نيويورك بصوت غزة

يمكن النظر إلى فوز زهران ممداني بعمادة نيويورك باعتباره واحدة من تلك اللحظات السياسية التى تكشف انشقاقًا فى البوصلة الأميركية، رغم الضوضاء الثقيلة التى يصنعها تحالف المليارديرات، من ترمب إلى ماسك ومن يدور فى فلكهما.

الفوز لا ينبغى أن يُقرأ كمعركة معزولة، بل كعلامة على مسارات متشابكة: تعبٌ شعبى من السرديات السلطوية، صعود قوى التمثيل القاعدى، وتصدّع ثقة جزء معتبر من الجمهور فى “المال كبديل للديمقراطية”. 

هناك عدة زوايا لفهم المشهد:

أولًا، المجتمع المحلى يسبق العناوين العريضة أحيانًا: حملة ممدانى اعتمدت على تنظيم ميدانى، عمل مجتمعى، وخطاب مرتبط بقضايا الناس اليومية: إسكان، خدمات، عدالة اجتماعية، وحقوق المهمَّشين...

الناخب الذى يقف فى صف طويل تحت مطر نيويورك لا يصوّت دائمًا وفق تغريدة عابرة لماسك، بل وفق شعور بأنه يُرى ويُسمع داخل حيه. 

ثانيًا، اللحظة الأميركية تعيش توترًا بين “سلطة رأس المال” و”شرعية الشارع”...

ترمب وماسك يمثلان سردية أن الثروة والتكنولوجيا يمكنها إعادة تشكيل السياسة، بينما فوز شخصية ذات جذور مهاجرة، وتوجه يسارى، يرسل إشارة بأن القدرة على الحشد الاجتماعى لم تمت، وأن خطاب العدالة لا يزال يملك جاذبية، خاصة بين الشباب والطبقات العاملة.

ثالثًا، موجة التعاطف مع فلسطين وتحوّلها إلى معيار أخلاقى فى كثير من الدوائر التقدمية لعبت دورًا مهمًا... ممدانى، المعروف بمواقفه الواضحة ضد الحرب على غزة، استفاد من لحظة وجدانية وسياسية يجد فيها جزء من الناخبين أنهم يريدون قيادات لا تخشى مناهضة الرواية الرسمية. هذا لا يعنى أن كل من صوّت له فعل ذلك من أجل فلسطين، لكنه يعنى أن “بوصلة العدالة” صارت اختبارًا للقيادة. 

رابعًا، فشل “التحالف اليمينى التكنولوجى” فى تحويل نفوذه الإعلامى والمالى إلى رأسمال انتخابى مباشر...

تغريدات ومقاطع فيديو لا تعوّض لمس الأيدى على الأبواب، ولا تجيب عن أسئلة الناس حول الإيجار والضرائب والأمان الصحى...

هناك انفصال بين شعبوية رقمية وشعبوية ميدانية؛ الأولى تملأ الفضاء، والثانية تملأ صناديق الاقتراع.

خامسًا، هناك قراءة أوسع: أميركا تمر بمرحلة إعادة تعريف لروحها السياسية...

صعود أصوات تقدمية من أصول متعددة، فى مقابل تحالف أبيض يمينى مالى ـ إعلامى، يعكس صراعًا على الهوية والاتجاه...

فوز ممدانى هو نبضة فى هذا القلب المتصارع، لكنه ليس نهاية المعركة.

المال ما زال لاعبًا جبّارًا، لكن ليس قوة مطلقة...

التحشيد الاجتماعى، خطاب القيم، وشبكات الحىّ قد تربك ماكينة البلايين حين تتقاطع مع لحظة تاريخية مشحونة...

الصورة الأكبر تقول إن الولايات المتحدة تشهد “تسيّلًا” فى هويتها السياسية؛ خطوط كانت تبدو صلبة تذوب، وخرائط نفوذ يعاد رسمها... الجميل فى الأمر أن السياسة، رغم كل عيوبها، لا تزال قادرة على مفاجأة أصحاب الجيوب الثقيلة...

ومن يتابع هذا المشهد يجد أن عالم القوة اليوم ليس أحادى الاتجاه، بل متعدّد المسارات، وفيه فسحات للأصوات القادمة من الهامش لتؤثر فى المركز.

فى هذا السياق، برزت مواقف ممداني المتصلة بغزة وفلسطين، والتى لم تكن مجرد تعاطف عابر، بل سلسلة مواقف جعلت اسمه يرتبط بخط العدالة للفلسطينيين داخل الساحة الأميركية. منذ الأيام الأولى للقصف على غزة، كان ممدانى من الأصوات التى وصفت ما يحدث بأنه عقاب جماعى ومجزرة بحق المدنيين. لم يستخدم لغة “التوازن المصطنع” الشائعة فى واشنطن، بل قدّم خطابًا يقوم على القانون الدولى وحقوق الإنسان، مع الإصرار على وقف فورى لإطلاق النار.

دعم حركة التضامن الطلابى وحق الطلاب فى الاحتجاج السلمى والدعوة لمقاطعة الشركات المتورطة فى دعم الحرب، منتقدًا الدعم غير المشروط لإسرائيل وداعيًّا لمراجعة “الشيك المفتوح” الذى يمنح لها، ومتبنيًا خطاب الحقوق لا “إدارة الصراع”، معتبرًا الفلسطينيين أصحاب حقوق سياسية وتاريخية لا مجرد طرف يجب تهدئته.

واجه محاولات خلط التضامن مع فلسطين بمعاداة السامية، مؤكدًا أن نقد سياسات إسرائيل ليس عداءً لليهود، وأن استخدام هذه التهمة حماية للقوة لا للكرامة الإنسانية، ورابطًا فلسطين بقضايا العدالة المحلية من الإسكان إلى الشرطة إلى توزيع الثروة.

حين سُئل هل سيزور إسرائيل إذا أصبح عمدة، لم يقع فى الفخ المعتاد، بل قال إنه لا يرى حاجة لزيارة دولة تمارس الاحتلال والقمع بينما تُغلق غزة وتُحاصر الضفة، مؤكدًا أن الشرعية تأتى من الوقوف مع العدالة لا من طقوس الولاء...

وعندما لاحقته الأسئلة حول الزيارة، وضع المسألة فى إطار واضح: “أنا أترشح لخدمة سكان نيويورك، لا لتمثيل دولة أجنبية”، رافضًا اعتبار زيارة إسرائيل طقسًا سياسيًا واجبًا أو اختبار ولاء.

انتقد إيباك علنًا بوصفها ماكينة نفوذ تفسد التمثيل الشعبى وتفرض رؤية أحادية للصراع، كاسرًا التابو التاريخى فى السياسة الأميركية. 

بل ذهب لأبعد من ذلك حين قال أنه سيعتقل نتنياهو إذا قدم لنيويورك لأن هناك مذكرة توقيف ضده من محكمة الجنايات الدولية، مؤكّدًا أن العدالة ليست انتقائية وأنه لا أحد فوق القانون الدولى، متحدثًا بصيغة ترتبط بملف جرائم حرب.

فى مجموع هذه المواقف، لم يكن ممداني مجرد فائز بمنصب محلى، بل صوتًا يعيد تشكيل قواعد الخطاب العام...

ليست قصة زائر يرفض زيارة، ولا سياسي ينتقد لوبي، بل تجسيد لمحاولة تحرير السياسة الأميركية من ركام الرهبة التى جعلت كلمات مثل فلسطين واحتلال وإيباك ووقف الحرب مصطلحات محظورة...

ممداني أعادها إلى المجال العام بلا قفازات قطنية، رافعًا معيار العدالة على حسابات النفوذ.

فى زمن يمتحن قدرة المجتمعات على رؤية الألم عبر الحدود، بدا أن جزءًا من أميركا قرر أن يختار المرآة لا الستار.
----------------------------
بقلم: د. إبراهيم حمامي
* نقلا عن صفحة الكاتب على موقع X

مقالات اخرى للكاتب

زهران ممداني: حين يهتز مركز نيويورك بصوت غزة