05 - 11 - 2025

المتحف الكبير بين الثقافة والسياسة والعلم

المتحف الكبير بين الثقافة والسياسة والعلم

"مصر القديمة مش محتاجة نظريات خزعبلية عشان تبان انها عظيمة، مصر القديمة عظيمة وملهمة وبس"، بهذه العبارة الموجزة اختتمت عالمة الآثار المصرية مونيكا حنا منشورا كتبته على حسابها على الفيسبوك، بصفتها باحثة مصـرية في علم الآثار والحضارة القديمة، ومختصّة في دراسة مصر القديمة، تحديدًا، وهي صاحبة رؤية ووجهة نظر نقدية تحظى باحترام كبير في الحالة الراهنة لعلم المصريات، ولها كتاب مهم حول مستقبل هذا العلم. لم اهتم بالمنشور فقط وإنما امتد اهتمامي لقراءة التعليقات وردود الدكتورة مونيكا على بعضها، للولوج إلى موضوع هذا المقال، الذي يكمل مقالي السابق عن المتحف الكبير وسؤال الهوية المصرية والمستقبل. طرحت الدكتورة مونيكا في هذا المنشور إشكالية كبيرة فيما يخص كيفية كتابة سيناريو احتفالية بقدر افتتاح المتحف المصري الكبير وبناء السردية التي يُقدمها بمثل هذا الحجم في العالم. ولعل السؤال الرئيسي الذي يتطلب إجابة من الجهات التي انخرطت لسنوات في الإعداد لهذا الحدث، لماذا لم تشكل لجنة علمية من المتخصصين المشهود لهم في علم المصريات، من مصريين وغير مصريين، للإشراف على كتابة هذا السيناريو، لضمان عدم تبني نظريات خاطئة فيما يخص تاريخ أقدم حضارة في العالم؟ هذا السؤال سيظل مطروحًا إلى أن تأتي إجابة أو يتخذ إجراء لتصحيح ما ثبت من أخطاء في السيناريو وفي السردية.

غير أن التعليقات المتباينة على ما طرحته الدكتورة مونيكا تكشف تداخلًا بين ما هو سياسي وبين ما هو ثقافي، ومعظمها كشف عن مدى خلط الدائرتين بالعلم وموضوعه، ومنهجه وأدواته، وهذا أمر غير مستبعد في ظل حقيقة أنه لا يوجد تاريخ مثل التاريخ المصري القديم جرى تزييفه على هذا النحو الذي تم، ولا توجد حضارة جرى استباحتها ومحاولات السطو غليها، ماديًا ومعنويًا، مثل الحضارة المصرية القديمة التي تقف شامخة وحاملة لكثير من الأثار والأسرار التي تتحدى محاولات تغييبها المستمرة منذ أكثر من 2500 عام عانت خلالها مصر من احتلال ثقافي وفكري وديني، وهي محاولات مدفوعة بنظرية ترى أن هذه المنطقة تقع في قلب العالم، وأنها قاعدة لبناء إمبراطوريات كبرى تعاقبت انطلاقًا منها. ومن اللافت أن من نبه الشعوب المحيطة في العالم القديم بهذه الحقيقة، هي الإمبراطورية المصرية القديمة التي بلغت ذروتها مع الأسرة الثامنة عشر وما بعدها. وبما أن شاغلنا الأساسي هو المستقبل، وكيف يمكن أن يكون حدث كبير مثل حدث افتتاح المتحف الكبير نقطة انطلاق صوبه، فإن انحيازنا يجب أن يكون للحقائق لا للآراء والنظريات، وأن العلم ومنهجه وأدواته هو السبيل، لا المعتقدات المستقرة والراسخة في النفوس، هو الطريق المعتمد للوصول إلى هذه الحقائق.

بداية، نُقر بأن التفكير النقدي هو المنهج الذي أحدث ثورات كبرى في تاريخ البشرية، وأنه الركيزة الأساسية لتقدم المعرفة البشرية والمحرك الأساسي للثورات العلمية والفكرية الكبرى في العالم، منذ عصر النهضة ووصولًا إلى الثورة العلمية الخامسة وما تبشر به من تحولات كبرى مع الدخول في عصر الذكاء الاصطناعي، الذي أناح للبشرية أدوات ووسائل تمكنها من التعامل مع التراكم الهائل في البيانات والمعلومات والمعرفة الذي وضع البشرية على أعتاب مرحلة جديدة في تحولها. غير أن هناك من يخشى في مجتمعنا مثل هذا النوع من التفكير بدافع الخوف على ما استقر عليه من معتقدات، أو بدافع الخوف على سلطته أو على مركزه الاجتماعي الذي قد يهدده اكتساب الجمهور قدرًا من المعرفة والوعي الذي يعينه على تغيير الواقع من أجل تحسين فرص العيش. وقد لمست في كثير من التعليقات إما رفض لمثل هذا التفكير النقدي، أو جرى التشبث به، ليس رغبة في المعرفة وإنما للدفاع عن آراء شاعت على حساب العلم والحقيقة العلمية، أو للدفاع عن السردية التي تبنتها الدولة دون التأكد من صحتها أو سلامتها العلمية، وهنا يبرز الموقف السياسي لهذا الطرف أو ذاك. 

المتحف الكبير كإنجاز سياسي

التوظيف السياسي لحدث افتتاح المتحف الكبير، سواء من قبل السلطة أو خصومها واضح، ليس هذا فحسب وإنما قد نلمس في الخطابات المختلفة الصادرة عن السلطة وأنصارها تباينات واضحة بين أنصار الهوية المصرية المتمايزة ثقافيًا وحضاريًا عن محيطها الثقافي الذي تداخل مع هذه الهوية وأثر فيها وبات واحدًا من المكونات الأساسية لهذه الهوية التي تتميز بأنها متعددة الأبعاد المتعاقبة تاريخيًا والمركبة ثقافيًا، والتي حددها الدكتور ميلاد حنا بأنها أعمدة سبعة للشخصية المصرية. لا خلاف على أن بناء المتحف وافتتاحه في حفل مبهر، إنجاز عمل المصريون على تحقيقه منذ عقود، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، لكن لا يمكن أيضًا إنكار أن أي عمل يعاني من أوجه للقصور وجوانب نقص، مهما بلغ مستوى اتقانه، وأن مهمة التفكير النقدي هي الإشارة إلى أوجه القصور والنقص هذه بقصد تدارك ما يمكن تداركه وتصحيحه، أو الانتباه لهذه الأخطاء والتعامل معها بحذر شديد إذا تعذر التصويب أو الإصلاح. تمامًا كما لو كنا عبدنا طريقًا ثم اكتشفنا عيبًا فيه. المشكلة تكمن فيمن يضيق ذرعًا من النقد، ويكيل الاتهامات إلى من يمارسه. وهو ما تعرضت له الدكتورة مونيكا حنا بسبب طرحها الذي تصادم مع الرواية التي اعتمدتها السلطة أو تعارض مع رأي يلقى رواجًا في ظل غياب الحوار العلمي الجاد من قبل المجتمع الأثري وترويجه عبر الإعلام والمؤسسات التعليمية.

هناك نوع آخر من النقد للحدث جرى التعامل معه بأسلوب أمني مقيت تمثل في اعتقال الداعية السلفي الشيخ مصطفى العدوي بسبب بلاغات قُدمت ضده على خلفية تصريحات نُشرت له على مواقع التواصل الاجتماعي، هاجم فيها افتتاح المتحف الكبير ودعا للتبرؤ من "فرعون" وتشبيهه التماثيل والآثار الفرعونية بالأصنام. لا أوافق الداعية السلفي رأيه بخصوص المتحف ولا أشاركه آراءه في الحضارة المصرية القديمة، لكني أعارض اعتقال شخص بسبب رأيه أو معتقداته، ولا حتى بسبب دعوته للامتناع عن زيارة المتحف، ما لم تتضمن هذه الآراء تحريضًا على العنف. وكنت أتمنى أن يتم تصحيح هذا الموقف بإخلاء سبيله دون أي كفالة مالية، إلا إذا كانت هناك أسباب أخرى ارتأتها النيابة تستدعي ذلك. القبض على الشيخ العدوي لن يغير رأي قطاع من الجمهور المصري يأخذ موقفًا سلبيًا من حضارة مصر القديمة بسبب معتقدات دينية، ولا يجب أن نخشى من وجود مثل هذا الرأي، ولا يجب في الوقت نفسه أن يمنعنا مثل هذا الرأي أو تلك المعتقدات من الدفاع عن تلك الحضارة وما خلفته من آثار مادية ومن قيم حضارية. وربما كان تجاوب السواد الأعظم من المصريين مع الحدث أن يجعلنا أكثر ثقة في مواجهة هذه الآراء التي تأثرت بثقافات وافدة مرتكزة على المعتقدات الدينية. 

هناك نوع ثالث من النقد، يتعين علينا تفهمه والاشتباك معه والاستفادة منه، وهو النقد الموجه على أساس التكلفة التي تحملها المجتمع من أجل إنجاز المتحف وما إذا كان من الأولى توجيه هذه النفقات للتعليم أو الصحة أو لمشروعات أكثر جدوى ونفعًا للناس. مثل هذا النوع من النقد السياسي له وجاهته، إذ أنه ينبه إلى ضرورة بذل قدر كبر من الجهد والاستجابة من قبل الحكومة كي يشعر المواطنون بأن هذا المتحف من أجلهم وفي مصلحتهم. وفي تقديري أن السعر المحدد لزيارة المتحف عائق أكبر يمنع السواد الأعظم من المصريين من زيارته، وأن تأثير هذا العائق المادي يفوق تأثير دعاوي مثل دعوة الشيخ مصطفى العدوي. ربما قد يكون تنظيم رحلات منخفضة التكلفة للطلبة أحد الحلول المقترحة للتغلب على هذا العائق واستثمار الحدث لتعزيز انتماء النشء والشباب إلى مصر وحضارتها العميقة، مع الحذر من أن يوقعنا هذا الاعتزاز في نوع آخر من السلفية أو التعصب الوطني المخالف لروح مصر وقيمها الحضارية. مع تأكيد ما أوصت به الدكتورة مونيكا من أن زبارة المتاحف ليست عرضًا مسليًا، وإنما هي مكان للتعليم والتثقيف والتفاعل مع الماضي، ومن ثم يجب أن تحترم العلم وحقائقه وتبتعد قدر الإمكان عن فكرة الإبهار والتسويق السياحي للمتحف.

المتحف الكبير من منظور ثقافتنا الراهنة

كان افتتاح المتحف وكذلك المنشور الذي كتبته الدكتورة مونيكا حنا مناسبة لفتح نقاش حول الحالة الراهنة لثقافتنا ووعينا لتاريخنا وتراثنا الحضاري، وتطرقت إلى جانب من ذلك في مقال الأمس، لكن هناك نقاط أخرى أثارها المنشور والتعليق عليه. أحد المشكلات الأساسية تتمثل في كيفية التعامل مع حقيقة أن الحضارة المصرية تركتنا أمام تحدي علمي وتكنولوجي كبير وفيها كثير من الألغاز والأسرار التي لم نتمكن من حلها بعد، وأن حل هذه الألغاز يتطلب تضافراً بين العديد من التخصصات العلمية والدراية التكنولوجيا. وبدلًا من أن تكون هذه الحقيقة دافعًا لإعادة النظر في كيفية تدريس الآثار والتاريخ في كلياتنا ومعاهدنا العلمية والأكاديمية، أو حتى في مراحل التعليم العام المختلفة، انطلاقا من حقيقة أن علم الآثار "علم بيني" أي يعتمد بناؤه على الدراية بتخصصات علمية وتقنية تتراوح بين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ والجيولوجيا إلى الفلك والكيمياء والفيزياء وتحتاج إلى دراسة فنون مثل الهندسة والتصميم والعمارة، نرى جزء كبيرا من التعليقات وقد تحول إلى نوع من النظرة الإقطاعية والضيقة في التعامل مع العلم من زاوية التخصص. وتجاهل قدر كبير من المداخلات حقيقة أن هناك وحدة في المنهج العلمي الذي ندرسه من خلاله الجوانب المختلفة للأثار المصرية في محاولة لتفسير حوادثها الكبيرة ومنتجاتها وابتكاراتها التكنولوجيا والمعمارية، بل والاجتماعية. واتفق في هذا السياق مع الآراء التي أكدت على الحاجة إلى متخصصين تكنولوجيا وفي العلوم المختلفة لفهم هذه الحضارة وضبط سرديتنا التاريخية بخصوصها. وقد تكون نقطة البداية لتأكيد هذا النهج مراجعة السيناريو الذي تم اعتماده رسميًا بالتشاور مع أهل الاختصاص وتصحيحها استنادًا إلى الدراسات العلمية المُحكَّمة والرصينة وتصحيحه.

هنا تجد الإشارة إلى عدد من العيوب في ثقافتنا والتي كشفتها التعليقات على انتقاد الدكتورة مونيكا، ومعظمها عيوب تؤكد ما ذهب إليه كثير من الفلاسفة والمفكرين المصريين والعرب بخصوص غياب منهج التفكير العلمي، التي تجعلنا أسرى للأوهام وعرضة للتأثر أكثر بالأسطورة والمعتقد والرأي الشائع وتفضيلها على العلم ومناهجه وأدواته. إن تراجع حالة البحث في علم المصريات لدينا جعل هذا المجال ساحة مفتوحة لذلك النوع من الآراء الرائجة التي تلعب على الأفكار المرتبطة بنظريات المؤامرة على بلدنا وحضارتها وتنظر بعين الشك إلى مجمل التراث المعرفي والعلمي في مجال علم المصريات ودراسة الحضارة المصرية القديمة الذي أنتجه علماء وباحثون ومكتشفون غربية والتركيز على التشكيك ودحضه بطريقة تبدو منطقية ومنهجية، مثلما يفعل المهندس أحمد عدلي من خلال الحلقات المصورة التي يقدمها بحرفية عالية وبقدر من الإبهار المعرفي لكن دون ممارسة قدر من النقد من المنهج الذي يتبعه، وهو ما فعلته الدكتور مونيكا.

النوع الثاني من الآراء التي تلقى رواجًا شعبيا، هي تلك الآراء التي تقدم سردية غير مؤسسة بطريقة علمية أو منهجية تزعم أننا الأصل في كل شيء. هذه السردية هدفها الأساسي هو تمجيد تاريخنا على نحو يقدم مصر كما لو كانت الأسبق والأعظم من الأمم الأخرى، وتبنت السردية الرسمية جانبًا كبيرًا من هذا الطرح، وعلى حساب الحقيقة العلمية والتاريخية والأثرية في كثير من الأحيان. وتتجلى خطورة هذا الطرح بشكل خاص عندما تتداخل مثل هذه الروايات مع المعتقدات الدينية وتحاول الربط وبشكل متعسف ومخالف للوثائق التاريخية والأدلة الأثرية بين روايات في النصوص الدينية وبين التاريخ المصري القديم، على النحو الذي شاهدناه في المسلسلات الإسلامية التي كانت تقدم خلال شهر رمضان للجمهور العريض من المصريين والتي كانت مصدرا رئيسيا لوعيه ولمعرفته بتاريخنا القديم والتي تسربت من خلالها الكثير من المغالطات بخصوص هذا التاريخ. اللافت أن كثيرًا من التعليقات التي تأثرت بهذه الأطروحات نحت منحى مخالفا لقواعد التفكير العلمي ودفع بعضها بمنطق أننا تربينا على هذه الأفكار ولا نعرف غيرها، بل بلغ الأمر مع البعض إلى حد الإعلان وبشكل واضح عن عدم استعدادهم للتخلي عن هذه الأفكار أو تغييرها، وتشكيكهم في أي طرح مغاير يستند إلى العلم، ومطالبة عالمة لها انتاجها العلمي المشهود بالاجتهاد وتقديم أدلة مثلما اجتهد مروجو النظريات السائدة. 

المتحف الكبير والعلم والمستقبل

أشرت في مقال الأمس وأشار كثير ممن كتبوا عن هذا الحدث الكبير إلى ضرورة أن يكون جسراً ننطلق منه إلى المستقبل. وأؤكد هنا أن التفكير العلمي والمنهج العلمي والانطلاق من الواقع وحقائقه يجب أن يكون وسيلتنا الأساسية في هذه الانطلاقة نحو المستقبل، ومن هنا تأتي أهمية منشور الدكتورة مونيكا. وانطلاقًا من المنشور ومن إبداء ملاحظات على بعض التعليقات عليه التي لمست فيها تشوشًا وخلطًا لدى المعلقين لما يعنيه العلم وطريقته. بداية، لاحظت من خلال بعض التعليقات شيوع الخلط بين النظريات وبين العلم، خصوصًا فيما يتعلق ببناء الهرم الكبير، وهو موضوع أثير لدى المغرمين بروايات الخيال العلمي والنظريات الكبرى في التاريخ التي تقترب من دائرة المعتقد بقدر ابتعادها عن دائرة العلم ومنهجه. هذه مسألة على قدر كبير من الأهمية إذا أردنا أن يكون هذا الحدث نافذتنا على مستقبل بات فيه العلم ومنجزاته أساسًا للبقاء والتقدم.

هنا يكون من المهم التمييز بين ثلاث مستويات للعلم. المستوى الأول، وهو ما تتضمنه الكتب المدرسية والموسوعات والمراجع الأساسية، التي تحتوي فقط على ما استقرت عليه المعرفة العلمية في الموضوع الذي ندرسه، وهذه المعرفة مؤسسة على حقائق تجريبية وعلى معرفة موثقة تعكس الحالة التي وصل إليها البحث العلمي في موضوع الدراسة وما توصلت إليه البحوث من نتائج. هذا المستوى هو ما يعرف بالعلم الراسخ أو المستقر، والذي يزود الدارس بجمله الحقائق والخلاصات التي تساعده على تكوين معرفة منظمة بالمجال الذي يدرسه وتزوده بالأدوات وبالعدة اللازمة للانطلاق في مسيرته العملية والبحثية كمختص درس هذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة. هذه الكتب المدرسية لا يجوز أن تتضمن أن نظريات لم تختبر بعد أو أي نظريات لم يحسمها البحث العلمي أو أي فروض لا تزال موضع اختبار ودراسة وبحث، ولا يقدم من النظريات إلا ما يفيد بناء المعرفة المنظمة بمجال الدراسة والتراكم المعرفي الذي تم في هذا الحقل وموضوعاته وقضاياه التي لا تزال قيد البحث والتجربة والتطور، التي تقدم من خلال المستوى الثاني في الحقل الأكاديمي.

المستوى الثاني، هو المستوى الأكاديمي، الذي تجري من خلاله اختبار الافتراضات البحثية والنظريات المختلفة ويجري من خلاله أيضا التدريب على التفكير المنظم والبحث في القضايا التي تندرج في هذا الحقل أو ذاك من حقول المعرفة، وتطبيقاتها العملية. هذا المستوي يخص الدارسين في الكليات والمعاهد المتخصصة ومراكز البحوث العلمية، وهو مجال قد يكون مغريًا لبعض الهواء غير المختصين الذين يتابعونه ليخرجوا باستنتاجات متعجلة استنادا إلى الكتب والأبحاث التي تثير موضوعات خلافية. هنا، يسهل الاعتماد على المنطق وأساليبه لترجيح رأي على حساب الآراء الأخرى، لكن تقديم هذا الرأي على أنه نتيجة علمية هو نوع من التزييف أو الاعتقاد بأن ما يقدم على هذا المستوى هو نظرية علمية مثبته بالأدلة والبراهين هو نوع الاستسهال والاستسلام للوهم على حساب الحقيقة، قد يُلام فيها الجمهور المتلقي أساسًا. في هذه الدائرة تروج كثير من النظريات التي تندرج تحت إطار ما أسمته الدكتورة مونيكا "العلم الزائف"، والتي تُعد فكرة ربط الاهرامات بحزام "أوريون" من أشهر أمثلتها وأكثرها رواجاً في الثقافة الشعبية. 

المستوى الثالث هو مستوى التفكير العلمي والثقافة العلمية. والتي تتحقق عندما يكون الجمهور العام غير المتخصص قادرًا على التمييز بين المعرفة العلمية والعلم وغيره من صور المعرفة والمعتقدات. ولا يتحقق هذا إلا عندما يدرك الشخص أن هناك قضايا وموضوعات خارج نطاق العلم. فالفرضية العلمية تقبل التكذيب وهي تختلف عن الحقيقة الإيمانية التي لا تقبل التكذيب من قبل من يؤمن بها ولا يمكن إخضاعها للتجربة والاختبار لتطوير معرفة مشتركة بشأنها. المشكلة تكمن في أن البعض يتصور أن كثيرًا من المعتقدات والآراء التي تلقى رواجًا وأصبحت معرفة مشتركة ترقى إلى مستوى المعرفة العلمية في حين أنها لم تخضع لأي تجربة أو اختبار لإثبات صحتها. وهذا النوع من المعرفة تحديدًا هو ما استهدفته الدكتورة مونيكا بدفاعها عن علم الآثار، وأرادت أن تميزه عن مسألة الخيال الفني والإبداعي، دون أن تنكر الدور الكبير الذي يلعبه هذا، لكن أيضا دون أن تعتبر أقوى من الحقائق العلمية، أو لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يقف عائقًا في طريق العلم، وترفض أيضًا أن يكون مثل هذا الكلام غير العلمي صادر عن مؤسسات رسمية، وترفض أن يكون منتجو النظريات الزائفة هم صُنَّاع محتوى وسائل التواصل الرقمية، وتدعو أن يكون افتتاح المتحف الكبير مناسبة لفتح مجال المعرفة الواسع في الحضارة القديمة ولكن على أساس علمي.

إن التصدي للتفسيرات أو الادّعاءات عن الماضي الأثري التي لا تتّبع المنهج العلمي ولا تستند إلى أي دلائل قابلة للتحقق، والتي تعتمد غالبًا على تكهنات أو قراءات بديلة أو نظريات المؤامرة، بات ضرورة لإشاعة التفكير العلمي والمنطقي والتخلي عن كثير من الخرافات والأوهام التي اقترنت بالحديث عن الحضارة المصرية القديمة، لما يتضمنه ذلك من تشويش على الجمهور العام ونشر معلومات زائفة أو مبالغ فيها على نحو مثير للسخرية عن حضارتنا وتاريخنا، ودون أي مصادرة للمعرفة وإنما تمكين لها من خلال التمييز بين السؤال والنقد العلمي وبين الترويج لروايات غير مدعّمة، مع تأكيد ضرورة فتح الباب أمام النقاش العام واتباع منهج الشك العلمي أو المنهجي، باعتباره جوهر المعرفة. وأن من مهمة المؤسسة ممثلة في المتحف، وهيئة الآثار، وأقسام الآثار في الجامعات عدم الترويج للنظريات التي لم تثبت بعد، أو عرضها كأنها «حقيقة مثبتة»، بل ودعوة الجمهور للتمييز بين البحثٌ الأولى والفرضية البحثية التي لم تثبت بعد، وإخضاع المحتوى المؤسسي للتدقيق العلمي، وتبسيط الحقائق العلمية للمجتمع وأن يكون هناك تعليم برامج توعية في المتحف أو على الإنترنت تشرح للمشاهد: كيف نعرف المعلومة الأثرية؟ ما هي المصادر؟ وما هي طريقة التأكد؟ حتى الناس تكتسب «محو أمية علمية» الآثار، وأن يراعي صُنَّاع المحتوى والمهتمين والمتابعين للحضارة المصرية الصدق مع النفس ومع الجمهور والتعامل بقدر من المسؤولية الواجبة.
------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

المتحف الكبير بين الثقافة والسياسة والعلم