الغرب الأوروبي دأبه وديدنه يأخذ ولا يعطي، لا يجد فرصة فيها مصلحته إلا اقتنصها ولم يضيعها سدى.
وتلك ما يسمى بالأنانية المفرطة التي تحدث عنها فلاسفة الغرب ولا سيما توماس هوبز.
حتى إذا ما أظهر تعاطفا معنا ، فهو تعاطف مصلحي بغية استمالتنا إليه فنصيح مسبحين بحمده ، وأنه قدم لنا العلم والمدنية الحديثة ، لكن في حقيقة أمره يحقد علينا حقدا دفينا توارثه عن أجداده وأسلافه وزرعه في أولاده وهكذا دواليك.
نعم حقد دفين لثلاثة أسباب مهمة أولها ، حالة الفوضى والبؤس على كآفة المستويات التي شهدتها أوروبا في العصور الوسطى المظلمة. بؤس وفقر ديني ، علمي ، سياسي ، ثقافي ، اقتصادي. وما أن اتتهم الفرصة راحوا يعدون العدة ليوجهوا حملاتهم الصليبية التي اتخذت الدين ستارا لها لنهب ثروات وكنوز المسلمين في ديار الإسلام ، زعما أن المسيحية تضطهد في ديار الإسلام ، وهم يعلمون علم اليقين أن هذا محض افتراء.
ثانيها ، ما رأوه من ازدهار للحضارة الإسلامية خصوصا في القرن الرابع الهجري ، تقدم فى كل شئ يسهم فى بناء النهضة والمدنية المعاصرة، تقدم في الآداب والفنون والزخارف والطب والهندسة وفي شتى صنوف المعارف.
ثالثها ، خشيتهم من المد الإسلامي الذي راح يزحف إلى ديارهم بشدة عن طريق دخول الآلاف من الغرب فى الإسلام عن قناعة ، وقد شاهدنا ذلك فى الآونة الأخيرة وما زلنا نشاهد إلى الآن.
فها هي الفرص مواتية له تروق هواه ، هذا الضغف والوهن الذي أصاب الأمة الإسلامية المليارية من حيث تعداد سكانها . وها هو التشتت والتشرذم والتحزب ، والصراعات الداخلية على مناصب وكراسي. وها هو الانفلات والتدني القيمي والأخلاقي. وها هي اللامبالاة وعدم الولاء ، والبراء ، الولاء للوطن أولا وقبل كل شئ وبعد كل شئ ، والبراء من كل من يطعن في هذا الوطن والتصدي له بمنتهى القوة.
إلا أن ثمة عوامل مهمة استثمرها الغرب للإستفادة من الإنحطاط التي أصاب أمتنا الإسلامية ، فراحوا موظفين إياه لتشييد نهضتهم المزعومة.
أولها: فإنه من خلال تتبع تاريخ نشأة الدولة الإسلامية بدءا من دولة المدينة الفتية التي تركها النبي غضة طرية ، إلا أن الصراعات بدأت تدب وتنخر في جدرانها بدءا بمن يتولى الخلافة ، فراح الإنقسام يضربنا لولا تصدي الخليفتين أبو بكر وعمر وسيطرتهما على هذه الفتنة، التي أراد أن يستثمرها أعداء الإسلام من اليهود الذين دخلوا فى الإسلام دهانا ونفاقا من أجل الإطاحة بالدولة الإسلامية وزلزلة أركانها.
ثم الفتنة التي دبت في عهد عثمان وانتهت باستشهاده.
فلا يظن أحد أن هذه الفتن تلقائية ، كلا وإنما هي فتن مرتبة، وشاهدي على ذلك فتنة موقعة الجمل ، ثم الفتنة التي انتهت بمقتل علي واستشهاد أولاده من بعده، ثم الصراعات التي حدثت بعد ذلك بين الأمويين والعباسيين .
أليست هذه الفتن وما شابهها خير دليل على المكائد والمؤامرات التي حيكت للدولة الإسلامية من أجل زعزعتها.
ثم التقسيم الذي حدث لبلاد المغرب والأندلس وانقسام الدولة الإسلامية إلى دويلات وممالك، ملوك الطوائف ، الموحدين ، المرابطين.
وكانت النهاية المؤسفة ، سقوط الأندلس ، كما سقطت بغداد عدة سقوطات متتالية.
ولعل المتفكر في هذا الأمر ويكون متعمقا في تفكره سوف يصل إلى حقيقة مرة ، ألا وهي ، نحن من فعلنا ذلك بأنفسنا وسلمنا عقولنا للفتن ، بل وأعطينا قلوبنا وأفئدتنا لمثيري هذه الفتن ، أولئك الذين تسللوا إلينا من كل حدب وصوب ، سواء من دولة الرومان ، أو بلاد الفرس.
فلماذا؟!، فتحنا أذرعنا لمثيري الفتن ولم نأخذ حذرنا ، على الرغم أنه تعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)، فيبدو أن الخطاب موجه لأهل الإيمان ، وما نحن بأهله.
كل هذه الفتن لها دور ليس فقط في سقوط الخلافة الإسلامية ، لكن لها دور مهم ، ألا وهو ومن خلال المنطق الرجيح ، هل من يكون منشغلا طيلة عمره بالفتن والقيل والقال والصراعات الداخلية ، هل سيكون لديه وقت لإرسال الارساليات الدعوية إلى الأمصار المتاخمة ، هل سيتعدي البحار ويركب الأمواج لنشر الدعوة ، فغاب عن الغرب الأوروبي الخطاب الدعوي ونشر الإسلام.
النتيجة الحتمية انغماس الغرب الأوروبي في ماديته لهاثا خلف شهواته ومغرياته المادية ، فلا يكون ثمة اهتمام بعلوم دينية ، وإنما جل الإهتمام سيكون بالنزعات المادية التي سيصدرونها في اتجاه معاكس إلينا لننغمس معهم في ماديتنا فلا نفكر ولا نبحث ولا نكتب ولا نتقدم ، وهذا هو حالنا الآن ، إلا ما رحم ربي.
ثاني العوامل ، انحطاط التعليم في بعض البلدان العربية والإسلامية والعبث المقصود بالمناهج التعليمية حذفا تارة وإحلالا وتجديدا تارة أخرى ، وحشوا تارة ثالثة. وعدم الاهتمام بالعمليات التعليمية وانحطاط دخول المعلمين وأساتذة الجامعات. كل هذا الانحطاط الممنهج كان عاملا رئيسا إلى هجرة الدارسين إلى جامعات أوروبا .
وهنا يحدث ما لا يحمد عقباه ، فيحدث الاستقطاب لهؤلاء الدارسين عن طريق توفير مناخ ملائم لإتمام بحوثهم ، مما يجعلهم يصبون جام غضبهم على بلدانهم مسبحين بحمد الغرب ، والنتيجة لا يعودون إلى أوطانهم ويستفيد منهم الغرب فى الرقي والارتقاء علميا ، شاهدنا ذلك رأي العين ، علماء عرب ومسلمين يعملون فى وكالات فضاء عالمية كوكالة ناسا وغيرها ممن هم مهتمون بأبحاث الفضاء والذرة وعلوم الفيزياء والكيمياء والهندسة الوراثية.
ثالث العوامل، الانهيارات الإقتصادية المستمرة التي ضربت العالم ولم يعمل لها حسابا عدة وعتادا العرب والمسلمين ، مما جعلهم لا يستمعون لصوت العقلاء من خبراء الاقتصاد ، فراحوا إلى أسهل الطرق وأقربها ، ألا وهي الاستدانة ، سواء الاستدانة الداخلية أو عن طريق صندوق النقد الدولي الذي ما حل في مكان من العالم إلا وحل الخراب خصوصا الدول الإسلامية النامية فتصبح الشعوب فريسة لإملاءات هذا الصندوق الممول.ومن ثم تظل الدول الإسلامية تحت رهن هذا الصندوق منفذين (افعل ما تؤمر)، لكن ستجدونا نحن الشعوب الإسلامية لمن المقهورين.
رابعها ، الاحتراب والاقتتال غير المبرر ، والممنهج أيضا ، سواء داخل الدولة الواحدة ، ذات الفصائل والعشائر من أجل السيطرة على الحكم والعصبية وخير دليل على ذلك الاقتتال الذي حدث بين القبائل والعشائر الليبية ، وكذلك السودانية.
وخارجيا ، مثلما حدث في حرب الخليج الأولى والثانية ، حرب العراق على الكويت واحتلال العراق لدولة الكويت ، والنتيجة تدمير الجيش العراقي القوي وإرهاق الكويت ماديا والسيطرة على بترولها من الدول التي شاركت في الحرب ، مما أنعش الإقتصاد الأوروبي وانهيار البنى التحتية لدولتي العراق والكويت على حد سواء.
خامسها ، واعتقد أنه عامل مهم لتصدير الإرهاب الأوروبي إلى كل دول العالم ومنها الدول الإسلامية، ونسبته إلى الإسلام ونشر ما عرف بالاسلاموفوبيا ، وأن المسلمين هم أهل الإرهاب ولابد من استئصال شأفتهم من العالم ، وخير شاهد على ذلك ما حدث في بعض مساجد أوروبا من السطو المسلح عليها بحجة أن المسلمين إرهابيون.
لكن ما الذي دفعهم إلى ذلك وتصوير الإسلام بهذه الصورة البشعة لدرجة أن الناس في بعض شوارع أوروبا عندنا يرون سيدة محجبة أو مختمرة أو منتقبة يهربون من أمامها.
لماذا حدث هذا ، اسأل عن الحزبية والتشتت والتشرذم الممنهج ، الصراع بين الشيعة والسنة ، الصراع المفتعل ، الصراع الذي حدث بين الجماعات الإسلامية والحكومات في بعض البلدان الإسلامية إن لم يكن كلها ، التشدد وعدم التمسك بوسطية الإسلام ، كثرة الأحزاب والجماعات ، كجماعة الإخوان المسلمين ، وكالسلفية. مما أدى إلى الإنقسام والتشرذم والتحزب ، فظهرت جماعة أنصار بيت المقدس ، والدواعش. وكل ذلك جر وراءه وبالا لمن نفق منه إلى الآن.
كل ذلك لماذا.؟!، لأن الأمة الإسلامية ابتعدت كل البعد عن صراط الله المستقيم ، وتركت كتاب الله وسنة رسوله.
ومن هذه المنطلقات راح الغرب يتقدم ماديا ويسيطر ويبسط هيمنته ، وأصبحت بلاد المسلمين مناخا خصبا للترويج لتجارتهم ولسلعهم ، فأصبح استيرادنا أكثر من تصديرنا.
أما الإستفادة الروحية ، فإنه على الرغم من كل هذه المثالب والمساوئ إلا أن ثم جانب روحي استفاده الغرب من المسلمين ، انتشار المساجد في بلاد أوروبا ، عن طريق الجاليات المسلمة التي وصل تعدادها في كل بلد أوروبي ما يزيد عن الملايين.
انتشار الدعاة ودخول الآلاف من الأوروبيين فى الإسلام ، وما نشاهده على شاشات الفضائيات لخير دليل على ما نذهب إليه ، فشاهدنا عبر البث المباشر من الجمعيات الإسلامية إشهار الآلاف لإسلامهم خصوصا نجوم الفن والرياضة.
إن هذا الموضوع من الموضوعات الشائكة التي تهم كل مسلم مهتم بنهضة أمته الإسلامية ، فإذا ما أردنا حقا تحقيق غاية مرادنا فينبغي علينا العودة إلى إسلامنا بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، إسلام الاعتدال والوسطية دونما إفراط فى التشدد أو تفريط فى الأصول ، أصول الدين وثوابته.
--------------------------------
بقلم: د. عادل القليعي
* أستاذ الفلسفة بآداب حلوان.
                    





