في مشهد يجمع بين عبق التاريخ وروح الحاضر، بعث الرئيس الصيني شي جين بينغ برسالة تهنئة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمناسبة الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، وهو الحدث الذي يمثل ذروة الجهود المصرية لإعادة تقديم حضارتها للعالم برؤية معاصرة.
هذه الرسالة، وإن كانت في ظاهرها تهنئة رسمية، فإنها تحمل في طياتها دلالات عميقة تتجاوز المجاملة الدبلوماسية إلى رسائل سياسية وثقافية تعكس طبيعة العلاقات الصينية–المصرية واتجاهها المستقبلي.
تمثل كلمات شي جين بينغ اعترافًا صريحًا من دولة كبرى بثقل المشروع المصري، وبدوره في صياغة المشهد الثقافي العالمي.
فالمتحف المصري الكبير، بما يضمه من إرث حضاري يمتد لسبعة آلاف عام، لا يُعد مجرد صرح أثري، بل رسالة مصرية إلى العالم تؤكد أن الحضارة ليست من الماضي فقط، بل هي طاقة متجددة قادرة على الإلهام والتأثير في الحاضر والمستقبل.
ومن هنا، تأتي إشادة الرئيس الصيني بالمتحف بوصفه “منارة بارزة للحفاظ على الحضارة المصرية ونقلها للأجيال القادمة”، في تعبير يعكس احترام الصين العميق للهوية الوطنية المصرية ودورها الريادي في تشكيل الوعي الإنساني.
من الناحية الرمزية، يمكن قراءة الرسالة الصينية باعتبارها امتدادًا لسياسة بكين في تعزيز “التواصل الحضاري” كأحد ركائز سياستها الخارجية الحديثة.
فالصين، التي تقدم نفسها اليوم كحاضنة لحوار الثقافات ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ترى في مصر شريكًا طبيعيًا على هذا المسار، ليس فقط لموقعها الجغرافي الاستراتيجي، ولكن لما تملكه من إرث حضاري يوازي عمق الحضارة الصينية ذاتها.
ومن هذا المنطلق، فإن تهنئة شي جين بينغ بالمتحف الكبير تحمل بعدًا دبلوماسيًا ناعمًا يسعى إلى ترسيخ صورة الصين كداعم للتنوع الثقافي، وشريك يحترم هوية الشعوب ويحتفي بإبداعها التاريخي.
على الصعيد السياسي، تُعد هذه الرسالة تأكيدًا جديدًا على عمق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين القاهرة وبكين، والتي شهدت في السنوات الأخيرة نموًا متسارعًا انعكس في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية والتكنولوجيا والثقافة.
فالرئيس الصيني لم يكتفِ بالإشارة إلى العلاقات الرسمية، بل حرص على إبراز النشاط المتزايد في التبادل الثقافي والشعبي، مستشهدًا بالمعرض المصري الذي أقيم في متحف شانغهاي وبالتعاون الأثري في سقارة.
وهذا التفصيل ليس عابرًا؛ إذ يعكس رؤية الصين للعلاقات مع مصر باعتبارها نموذجًا للتكامل الحضاري والعملي في آن واحد.
من زاوية أخرى، فإن ذكر شي للبعثة الأثرية المشتركة في منطقة سقارة يحمل دلالة رمزية عميقة. فالتنقيب تحت ظلال الأهرامات هو تجسيد حيّ للتعاون بين حضارتين عريقتين تسعيان معًا لاكتشاف الماضي من أجل بناء المستقبل، وهو ما يعزز صورة الشراكة الثقافية بين البلدين كجسر يربط التاريخ بالمعاصرة، ويمنح العلاقات الثنائية طابعًا إنسانيًا يتجاوز المصالح الاقتصادية البحتة.
كما يمكن النظر إلى الرسالة في إطار أوسع، باعتبارها جزءًا من الدبلوماسية الثقافية التي تستخدمها الصين للتقارب مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا.
فاختيار مصر، الدولة التي تمثل قلب العالم العربي وأحد رموز الحضارة الإنسانية، هو اختيار محسوب يؤكد رغبة بكين في تعزيز نفوذها الإيجابي عبر قنوات الثقافة والتراث، لا عبر أدوات الصراع أو التنافس.
وهذا التوجه يتماشى مع فلسفة السياسة الخارجية الصينية التي تؤكد على "التنمية المشتركة" و"الاحترام المتبادل للثقافات".
أما بالنسبة لمصر، فإن تلقي مثل هذه الرسالة من رئيس دولة كبرى مثل الصين في لحظة افتتاح المتحف المصري الكبير يعكس تقديرًا دوليًا لدورها الحضاري والثقافي، ويؤكد نجاحها في توظيف قوتها الناعمة لإبراز مكانتها العالمية.
فالمتحف لا يمثل فقط رمزًا للهوية المصرية، بل أداة دبلوماسية ثقافية قادرة على تعزيز صورتها كجسر بين الشرق والغرب، وكحاضنة لحوار الثقافات على أرضها.
ولا يمكن إغفال البعد الإنساني في رسالة شي جين بينغ، الذي خاطب الشعب المصري قبل أن يخاطب قيادته، معربًا عن تهانيه “للرئيس السيسي وللشعب المصري”.
هذه الصيغة تعبّر عن إدراك عميق بأن الحضارة لا تصنعها الحكومات وحدها، بل الشعوب التي تحفظ ذاكرتها وتصون تراثها، وهي رسالة تلتقي مع فلسفة الصين ذاتها في تمجيد العمل الجماعي والإرث التاريخي.
في المحصلة، يمكن القول إن رسالة شي جين بينغ جاءت لتؤكد أن العلاقات المصرية–الصينية دخلت مرحلة جديدة من النضج والتكامل، تتجاوز الاقتصاد والسياسة إلى فضاء أرحب من التفاهم الثقافي والإنساني. فهي ليست مجرد تهنئة، بل وثيقة رمزية تختزل مسارًا طويلًا من التعاون المشترك، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من “الدبلوماسية الحضارية” التي تُعيد تعريف العلاقات الدولية من منظور القيم المشتركة والاحترام المتبادل.
وهكذا، فإن افتتاح المتحف المصري الكبير لم يكن حدثًا مصريًا خالصًا، بل مناسبة عالمية أعادت رسم خريطة التواصل الثقافي بين الأمم.
ورسالة الرئيس الصيني جاءت لتضع هذا الحدث في سياقه العالمي الصحيح، مؤكدة أن الحضارات العظيمة لا تنطفئ، بل تلتقي في لحظات نادرة لتضيء دروب الإنسانية نحو مستقبل أكثر وعيًا وتسامحًا.
---------------------------
بقلم: أميرة الشريف







