03 - 11 - 2025

جحيم تحت الصمت

جحيم تحت الصمت

ما يحدث في السودان على يد قوات الدعم السريع (RSF) بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليس حربًا أهلية بالشكل التقليدي؛ بلدٌ يُمحى من سجلات الحياة، بينما العالم يراجع مواعيده، منذ استقلال السودان عام 1956، والانقسام إلى شمال مسلم أكثر حظًا في التعليم والسلطة، وجنوب إفريقي مهمّش، تكونت بذرة النار الأولى، ومن تمرد الجنوب (1955–1972) إلى إعادة اشتعال الحرب بعد فرض الشريعة (1983–2005)، ثم توقيع السلام الذي اغتيل بموت جون قرنق، وصولًا إلى انفصال الجنوب 2011 وخسارة الشمال 70% من نفطه، لم يعرف السودان الاستقرار.

دارفور مسرح الدم، مدينة الفاشر، المُحاصرة لعام كامل، سقطت بيد قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، تلك القوة الوليدة من رحم الجنجويد، صنعها نظام البشير، ثم تحوّل السلاح إلى وسيلة للهيمنة العرقية، وأصبحت الهويات تُستخدم كذريعة للقتل والنهب، اليوم، قوات حميدتي تعاقب الناس على أصولهم، شهادات الأطباء وحقوقيي الأمم المتحدة تتحدث عن تطهير عرقي، اغتصاب منهجي، حرق أحياء، وإعدامات ميدانية، قرى تُمحى لأن سكانها ليسوا من “القبيلة الصحيحة”، بحسب تقرير لوكالة رويترز، ارتفع عدد القتلى المدنيين بسبب العنف العرقي في السودان، لا سيما في دارفور، خلال النصف الأول من العام الجاري، كما نشرت فاينانشال تايمز ولوموند ديبلوماتيك إلى أن قوات حميدتي موّلت نفسها عبر تجارة الذهب وتهريبه عبر شبكات تمتد إلى دول خليجية وإفريقية، دارفور بوابة إفريقيا الغربية، أرض الذهب والمعادن النادرة والنفط والمياه الجوفية، نقطة مفصلية مفتوحة على ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومصر، لذلك تختلط البنادق بالذهب، كما عثر على معدات عسكرية بريطانية الصنع لدى القوات نفسها، ما يثير تساؤلات حول تورّط بعض الدول في تسليح من يرتكب هذا العنف.

الأمم المتحدة عبّرت عن قلقها من الجرائم ضد المدنيين، فيما أدان مجلس الأمن الهجمات المتكرّرة في منطقة الفاشر ومخيّمات النازحين، وطالب بوقف فوري للقتال، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية دون عرقلة، ومحاسبة الجناة، مؤكّدًا أن إنشاء أي حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع يُعد تهديدًا لوحدة السودان وسيادته، وكأن العالم تدرّب على تجاهل الإبادة عندما لا يملك الضحايا ثمن انقاذهم، غزة، تيغراي، ميانمار، والآن السودان؛ حضارة القرن الواحد والعشرين تتفرج كالعادة،

منذ سقوط البشير في 2019، حلم السودانيون بدولة مدنية، لكن التحالف بين البرهان وحميدتي لم يكن جسرًا نحو الديمقراطية، بل هدوءًا كاذبًا قبل الذبح، السلطة لم تكن سوى ساحة سباق بين جنرالين نحو العرش، ثم اشتعل الفحم: أبريل 2023، الخرطوم تحترق، ودولة كاملة تختفي بين التغريبة والقبور، اليوم، السودان يقف على بوابة المجاعة، الأمراض تنتشر، المدارس والمستشفيات لم تعد موجودة، والملايين مشردون، بلد كان يُسمى “سلة غذاء إفريقيا” صار يبحث عن فتات إغاثة، المأساة ليست فقط في الموت، بل في اعتيادنا عليه، تحول قتل الناس إلى خبر ثانوي، أصبح الإنسان رقمًا بلا وجه، السودان اليوم كما غزه مرآة هذا العالم؛ عالم يعلن قيمه في المؤتمرات ويدفنها في الصحاري حيث لا تصل الكاميرات.

من دارفور إلى غزة، ومن تيغراي إلى ميانمار، يتكرر المشهد ذاته، ربما لن ينهزم السودانيون لأن الشعوب لا تموت بسهولة، فغزة تعاني نفس الجحيم لكنها باقية تقاوم، فالإنسانية هي التي تمر باختبار أخلاقي قاسٍ.. وتفشل فيه بلا تردد، الدم الإنساني فقد قيمته، وكأن العالم اعتاد المشاهدة حتى صار الخراب خبراً عابراً، والمذابح أحداث جانبية، ليبدو أن الضمير الإنساني فقد ذاكرته.
-------------------------------
بقلم: إنچي مطاوع

مقالات اخرى للكاتب

جحيم تحت الصمت