(مقالة في وقتها بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير. أظهر أيضًا المقال القدرة على مزج التاريخ بالأدب والشعر من خلال شعر حافظ إبراهيم وأقوال أدونيس وغناء عبد الوهاب وأم كلثوم.
إن معرفة مصر بعظمة تاريخها تأخرت كثيرًا وبالتالي تأخر الوعي الشعبي بذلك. فمنذ أن اندثرت الحضارة المصرية القديمة منذ قرابة ٢٥٠٠ سنة، فَقَدَ المصريون التواصل مع أصولهم. وقد يكون رُبَ ضارة نافعة، إن إعادة تسليط الضوء على تلك الحضارة العظيمة بدأ مع الحملة الفرنسية لمصر. ولكن كان ذلك قاصرًا على الأجانب ولم يصل إلى الوجدان الشعبي، فقد كان وللأسف ما زال، البعض ينظر إلى هذه الحضارة كحضارة وثنية تعبد الأصنام، ومن لا يرى فيها أكثر من وسيلة لتجارة الآثار وبيع مكونات لا يعطيها قيمة، ولكن لأن هناك أجانب مستعدين لدفع مبالغ فيها فلنبحث عنها، وبالتالي متوقع أنه تم تدمير جزء كبير من هذه الآثار أثناء عمليات البحث غير الشرعي عن الآثار.
أعتقد أن هذه الرؤية بدأت في التحسن منذ بدء انتشار التعليم ودراسة التاريخ التي عرفت المصريين بأصالة تاريخهم. وإذا كان المتحف المصري بالتحرير قد أُقيم من خلال أجانب مثل ماسبيرو، فإن المعنى المهم في المتحف الكبير الجديد أنه أقيم بمعرفة مصريين مما يدل على التطور في الفكر الشعبي والرسمي.
ويمكن النظر أيضًا إلى مشروع نقل آثار النوبة عند بناء السد العالي وهو أكبر مشروع لليونسكو بناءً على طلب مصر كخطوة مهمة في هذا الاتجاه. وبالتالي فإن النظر للمتحف من الناحية التجارية كمشروع استثماري لخلق إيرادات هو حطٌّ من قيمة المتحف واستمرار لفكرة نحن نبيع للآخرين ما يريدونه، ولكننا لسنا بالضرورة محيطين بأهميته.
ولكن من المهم النظر إلى المتحف كأحد رموز الاعتزاز بهذا الوطن وأنه متفرد عبر تاريخه، وأعتقد أن جملة (مصر أم الدنيا) تُلخص ذلك المعنى، وذلك مهم جدًا لمواجهة بعض الظواهر مثل ضعف الانتماء والحطِ من قيمة الوطن عند مواجهة بعض التحديات الاقتصادية. وللأسف فنحن أحيانا لا نقدر قيمة بلدنا مثلما يراها الآخرين.
لقد كنا في عشاء بأحد اجتماعات تجمع منظمي الطاقة لدول حوض البحر المتوسط، رؤساء أجهزة تنظيم مرفق الكهرباء في كل من مصر والأردن والجزائر واليونان وإيطاليا وتركيا وفرنسا وإسبانيا، حين سأل رئيس التجمع، وكان إيطاليًا في ذلك الوقت، يا تُرى من هي أهم دولة يجلس ممثلوها حول مائدة العشاء؟، فصمت الجميع حرجًا أو تأدبًا. إلا أنني وجدته يقول مصر هي أهم دولة بلا منازع. ثم طلب مني التعقيب، والحقيقة أنني بقدر ما أسعدني ذلك بقدر ما أصابني بالحرج؛ فقد كانت هناك فرنسا صاحبة الحضارة الحديثة، وإيطاليا أم الحضارة الرومانية، واليونان مهد الحضارات الغربية، وتركيا مقر الحضارتين البيزنطية والعثمانية، إلا أنني ذكرت أنه بالرغم من تقديرنا لعظمة وإسهامات كل هذه الحضارات، إلا أن الحضارة المصرية القديمة كان لها السبق، وكما كانت حضارة متفردة فلم تكن حضارة بغرض الغزو والاستعلاء، ولكنها طرحت أول أفكار التوحيد والحساب بعد الموت، فهي حضارة إنسانية بمعنى الكلمة. وحينما أراد عالم الآثار "جيمس برستد" وضع عنوان لكتابة عن مصر، لم يجد وصفًا أدق من (فجر الضمير).
ورحم الله الكاتبة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي كان يُطلق عليها عاشقة مصر، والتي تعلَّمنا منها كيف يكون حب هذا الوطن العظيم، وأحسب اليوم أنها في علّيين تشعر بالسعادة الغامرة لافتتاح المتحف المصري الكبير.)
تعقيب الدكتور حافظ السلماوي، الرئيس الأسبق لمرفق الكهرباء والأستاذ بكلية هندسة الزقازيق.
للحملة الفرنسية على مصر وجهان؛ الأول حضاري تبلور في اصطحاب نابليون لأكثر من 150 عالما وفنانا ومفكرا، فتحوا عيون مصر والمصريين على ما وصل إليه الغرب من علوم وتقدم، فأدركوا حجم الهوة الفاصلة بينهم وبين الحضارة الغربية، ومن جانب آخر جاس هؤلاء المفكرين في المحروسة شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، وأنتجوا الكتاب الأشهر (وصف مصر)، على الجانب الآخر، وتحت شعار الدراسة وتأسيس علم المصريات، فتحت جرحًا عميقًا في الذاكرة الوطنية المصرية، عبر نهب ممنهج للآثار، حتى من بعد رحيل الحملة قام به قناصل الدول الأوروبية وتجارها. صحيح أنه كان هناك قبل الحملة سرقات ونهب، لكنها بعد الحملة الفرنسية صارت أكثر شراسة إلى أن أصدر محمد علي باشا عام 1835مرسومًا بمنع تصدير الآثار أو المتاجرة بها، وأمر بتجميع القطع الأثرية المنتشرة في أنحاء البلاد في مبنى واحد بالقاهرة، ليُعدّ ذلك أول نواة لما أصبح لاحقًا المتحف المصري.
وحتى الإشارة إلى أنه لولا الحملة لما أمكن فك رموز حجر رشيد، تكتنفها الكثير من الشكوك، ففي عام 855 ميلادية نشر أبو بكر أحمد الكلداني، المعروف بابن وحشية النبطي، مخطوطه الأشهر (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، وثَّقَ وفَسَّر فيها أنظمة الكتابة القديمة، ومن بينها اللغة الهيروغليفية، مما اعتبره البعض سابقًا على شامبليون، أو أن الأخير - على الأقل - استعان بهذا المخطوط في فك رموز اللغة الهيروغليفية، بعد اكتشاف مستشرق نمساوي نسخة من المخطوط، نشرها في لندن عام 1806 (توجد نسخة منها على الإنترنت). وهكذا، يبقى سؤال استعادة الآثار جزءًا حيًا من الذاكرة الوطنية.
حفظ الله الوطن.
----------------------
بقلم: د. م. محمد مصطفى الخيّاط
📧 [email protected]






