30 - 10 - 2025

المتحف الكبير.. رمسيس يتحدث والعالم يُنصت

المتحف الكبير.. رمسيس يتحدث والعالم يُنصت

عندما انتقلت إلى القاهرة في أوائل التسعينيات، خصصت يوم الجمعة من كل أسبوع لزيارة المتحف المصري بالتحرير. ابتعت كتابًا يصف قاعاته ومقتنياته، ويشرح تفاصيل كل قطعة معروضة. وبحثًا عن المعرفة الكاملة، قضيت أكثر من جمعة في القاعة نفسها، من لحظة فتح الأبواب صباحًا حتى إغلاقها مساءً، تتخللها استراحة قصيرة لصلاة الجمعة في مسجد عمر مكرم القائم غير بعيد.

لأكثر من ستة أشهر ظل البرنامج ثابتًا، لا يقطعه سوى عذر قهري يحول دون متابعة الرحلة الأسبوعية بين آثار مصر، الغنية والمتفرّدة، بما تحمله من تاريخ يمتد لآلاف السنين. ومع وفرة المعروضات، بدت بعض القاعات أقرب إلى مخازن عامرة بالكنوز منها إلى قاعات عرض في متحف، حتى أن بعض المسارات بين المعروضات كانت تضيق فلا تسمح إلا بمرور شخص واحد بالجنب، ومع ذلك ظل انبهار الزوار – أجانب ومصريين – يتضاعف أمام كل قطعة، مهما بدت صغيرة الحجم، عظيمة القيمة.

تدخل متحف اللوفر مثلًا، فتأخذك المساحات الواسعة، والأضواء التي تتوزع بين القوي والخافت، الظاهر والخفي، لتصنع هالةً حول الأثر، يتأمله الزوار من كل زاوية في صمتٍ مهيب. هناك، الإبهار في العرض مع محدودية المعروض، وهنا، العظمة في المحتوى رغم ضيق المساحة، وكأنها إشارة إلى ما تحتضنه المحروسة من ثروات تنتظر من يعيد صياغتها، وإكسابها القيمة المضافة اللائقة بها.

رحلة طويلة خاضتها مصر منذ أن كانت فكرة المتحف الكبير مجرّد سطور في أوراق رسمية، حتى تجسدت الرؤية حُلمًا ملموسًا على سفح الجيزة، حيث يلتقي الحاضر بالماضي في معمار يليق بمجد الأجداد، صرح مهيب مترامي الأطراف، يحمل ملامح الشخصية المصرية الأصيلة، ويقدّر كل قطعة من مقتنياته، صغيرها وكبيرها، مانحًا إياها المساحة المناسبة، وأسلوب العرض الأمثل، ومزاوجًا بين روح التاريخ وأحدث تقنيات العرض الرقمي والصوتي والبصري.

تتنوع الآثار حجمًا ونوعًا، وتتعاظم قيمتها التاريخية يومًا بعد يوم، وترتفع معها مكانة مصر على خريطة الحضارة الإنسانية.

وإذا كان وصف علي محمود طه لكليوباترا بأنها "فاتنة الدنيا وحسناء الزمان" ينطبق على مصر، فقد رأى أدونيس في مصر أصل القصيدة الأولى حين قال:

"من حجرٍ مصريٍّ بدأتْ قصيدةُ الأرض، ومن برديةٍ نُقشتْ عليها شموسُ اللغة."

تلك هي مصر التي وهبت الأرض أول أبجدياتها، وامتدت آثار أنوارها في الزمان والمكان فدرس في مدارسها فيثاغورث، وأفلاطون، وطاليس، وإقليدس، وديموقريطس، وأفلوطين، وغيرهم؛ واقتُلعت آثارها من منابتها في أرض مصر إلى ميادين باريس ونيويورك وروما، وحجر رشيد يحتل مكان الصدارة في المتحف البريطاني، ورأس نفرتيتي تتألق في متحف برلين.

من هنا، يتجاوز افتتاح المتحف المصري الكبير كونه حدثًا ثقافيًا أو معماريًا، ليصبح إعلانًا جديدًا عن حضور مصر في التاريخ والوجدان الإنساني. فهو ليس مجرد أكبر متحف للآثار في العالم، بل مركز إشعاع معرفي، يوظّف تقنيات العرض الذكي والتفاعل البصري والصوتي متعدد اللغات، ويضم مراكز للبحث والتعليم وعلوم المصريات، تستقبل الطلاب والباحثين والزوار من كل الأعمار.

في حياة الأمم، هناك محطات فاصلة تُعيد فيها الشعوب قراءة ماضيها لتستشرف مستقبلها. وافتتاح هذا المتحف هو واحدة من تلك اللحظات النادرة في مسيرة المحروسة؛ لحظة تأمل واستلهام وتصحيح للمسار.
وها هو رمسيس الثاني، الذي غادر ميدانه في قلب القاهرة إلى مدخل المتحف الكبير، يقف اليوم شامخًا، لا كتمثال من الجرانيت فحسب، بل كحارسٍ للتاريخ ومُستقبلٍ لضيوف العالم، يرحّب بهم في حضرة مجدٍ خالد صنعه الأجداد، بينما يتردد في الخلفية صدى صوت أك كلثوم تشدو من شعر حافظ إبراهيم:

وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعاً .. كَيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ وَحدي

وَبُناةُ الأَهرامِ في سـالِفِ الدَهر .. ِ كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّي

بينما يقف رمسيس شاهداً على سؤالٍ مفتوحٍ للأجيال: إذا كان هذا ما تركه الأجداد لنا، فماذا سنترك نحن لمن سيأتون من بعدنا؟

حفظ الله الوطن.
------------------------------------------
بقلم: د. م. 
محمد مصطفى الخيّاط
📧 
[email protected]


مقالات اخرى للكاتب

المتحف الكبير.. رمسيس يتحدث والعالم يُنصت