يعد كتاب "أبواب الأذى.. دفتر أوجاع أهل مصر" للكاتب عمار علي حسن بمنزلة شهادة اجتماعية حية، أو صور نابضة بالحياة عن الواقع المصري الراهن، وكل الأبواب أو النوافذ التي تلحق به الأذى، وتفاقم أوضاعه، وتضعه على حافة الخطر.
يزاوج الكاتب، من خلال هذا الكتاب الصادر عن دار الشروق في 300 صفحة من القطع فوق المتوسط، بين قدراته كباحث في مجال الاجتماع السياسي، يوظف المنهج العلمي في التفكير والطرح، لاسيما حقل الدراسات الثقافية، وبين كونه أديبا، له العديد من الروايات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر والمسرحيات والنصوص السردية عابرة الأنواع، وهو ما يظهر في الصياغة السلسة، والرؤية المشهدية والبانورامية، التي تعطي الكتاب جاذبية، وتتيح للقارئ العام أن يفهم معانيه ومراميه، وفي الوقت نفسه تفيد الباحثين في مجالي الاجتماع والعلوم السياسية، وتضع، دون شك، صانع السياسة، أو صاحب القرار، في عين الحقيقة الاجتماعية المصرية الحالية، ومختلف العوامل التي تشكلها وهي سياسية واقتصادية ونفسية ودينية وثقافية وعلمية ومعرفية وأنثربولوجية.
لم يتبع الكاتب الطريقة التقليدية التي تقسم الكتب من هذا النوع، أو تحت هذا العنوان، إلى فصول ومباحث ومطالب، وهكذا، إنما يطرحه دفقات أو لوحات أو كتابات تجمع بين الوصف والتحليل والسرد والتقرير، عبر عناوين لافتة، جاءت، وفق الفهرس، على النحو التالي: "ضحك كالبكاء"، و"السكون والحركة"، و"الاستقرار والفرار"، و"العَرض والمًرض"، و"الدوران الاجتماعي"، و"التماسك والتحلل"، و"غُربة القرى"، و"أوراق العائلة"، و"الجد والحفيد"، و"نساء منسيات"، و"الغوث والتخلي"، و"السائد والمتنحي"، و"القبضة الحديدية"، و"التمثيل والتضليل"، و"تفكيك النخبة"، و"الخداع والإرغام"، و"العُصبة والعِصابة"، و"الأيدي الجارحة"، و"النميمة والثرثرة "، و"الداء والدواء"، و"الحرمان العاطفي"، و"خذلان الفِراش"، و"إهدار الاحتراف"، و"السطوة الرؤوفة".
ومن العناوين أيضًا: "تصدع الوسط"، و"أنياب العوز"، و"قلب الجحيم"، و"الكفاية والكفاف"، و"غضبة الجوع"، وقَدَر الإنحناء"، و"مسخ الهوية"، و"الهجوم الأسمر"، "فوضى الشوارع"، و"سرقة المكان"، و"خريطة البنيان"، و"أصناف المشردين"، و"قسوة التجوال"، و"مواصلات الغلابة"، و"انهمار الحنين"، و"قياس الحاضر على الماضي"، و"انفلات الجريمة"، و"بؤس الغيبيات"، و"مِزاج الشعب"، و"المشكلة المستديرة"، و"ثقافة مريضة"، و"تجهيل فادح"، و"المذيع الواعظ الزعيم"، و"تلويث الفلكلور"، و"هبوط الذوق"، و"صعود الشعبوية"، و"هوس الشهرة"، و"من السماء إلى الأرض".
ولم يكتف المؤلف بالعودة إلى دراسات وأبحاث وكتب وتقارير وتقديرات مواقف وأوراق عمل بل استعان بما يجري في الواقع، وشاهده هو عيانا بيانا، أو شارك فيه، كونه واحدا من أبرز "المثقفين العضويين" في مصر حاليا، لا يطل عللى المجتمع وظواهره من نافذة الكتابات المسطورة فقط، إنما أيضًا يقف في قلب الميدان، حيث أنصت إلى ما يهمس به الناس ويصرخون، وهو يقف وسطهم، وما يظهر من سكناتهم وإيماءاتهم وحركاتهم.
من هنا خرجت سطور الكتاب من قلب الشارع والسوق والمعمل والحقل والمصنع ومكان العمل، ومن التاريخ إلى الحاضر، ومن الفرد والأسرة إلى المجتمع. هي كتابة الخندق وليس المكتب الفخم. خندق لأن هذا الكتاب أشبه بمعركة يجب أن نخوضها، وهي كذلك كتابة بالمشرط لأنه الكتاب أشبه بجراحة خطرة لابد من إجرائها، فنفحص الداء أولًا، ونشخصه، ونصفه بدقة، وهي مهمة ضرورية قبل الشروع في وضع أي علاج.

ويقول الكاتب في المقدمة: "لم يركن الكتاب إلى الصياغات الأكاديمية، فينفر منها القارئ العادي الذي تقصده، لكنها راعت المنهج العلمي في التفكير، ولم تركن إلى نقولات من بطون الكتب، لأنها أخذت في الاعتبار ما ينطق به الناس، وهو نصف العلم الاجتماعي من دون شك. ولهذا آثرت أن أصف المجتمع المصري في نقاط محددة، بعد تأصيل للثوابت التي يقيم عليها بنيانه."
يعطي هذا الكتاب مصداقية ودفئًا إنسانيًا، وهو يعالج قضايا متداولة، من زوايا رؤية خاصة، وضع فيها كامل خبرته الحياتية، وقراءاته المتنوعة، وعرضها بطريقة تجمع بين الأدب في سردياته وفضله على الخيال العلمي الاجتماعي، وبين التحليل الاجتماعي المعمق، فنرى من خلاله مشكلات المجتمع المصري الحالية بطريقة مغايرة عما يسكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التقليدية.
يضعنا الكتاب إذن في عين مشكلات عدة من قبيل الفقر والبطالة والأمية وجرح الكرامة الإنسانية، وتآكل قيم العمل، وازدياد الجريمة، وحدوث التفاوت الطبقي الشديد، والاستقطاب الاجتماعي الحاد، واجتراح الضمير الجمعي، وتحول التدين إلى طقوس، إلى جانب تأثير الصراعات السياسية على العلاقات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقة بين الناس، وكيف أضعفت الأزمات الاقتصادية والسياسية المنظومة القيمية عند الفرد والأسرة ولدى المجتمع العام، وكيف تؤثر المنظومة الإدارية في تحجرها وترهلها على الصالح العام.
لا يكتفي الكاتب في هذا المضمار بوصف الظواهر، بل يسعى لفهم جذورها التاريخية والاجتماعية والنفسية، مدفوعا برسالة أساسية ظاهرة تدعو إلى وعي جمعي بالمشكلات البنيوية التي تعاني منها مصر، وتحذر من الاكتفاء بالحلول السطحية، وهو يرى المجتمع المصري بات في خطر وأن "هذه حقيقة لا مواربة فيها. ليست هي محل شك أو ريبة أو تهوين إلا عند جاهل أو غافل أو متواطيء، ولهذا الخطر ألف باب، وآلاف النوافذ، تهب رياحه، بل عاصفته من كل اتجاه، تحمل معها غبارًا مسمومًا."
ويضيف الكاتب " تعدى الأمر عتبة الحديث عن ضعف في بنيتنا الاجتماعية أو توعكها ومرضها، أو صعوبة الخروج من ضيق الآني نحو براح الآتي، إلى ما يهدد بقاءنا، أو يبقينا مرضى خاملين، في ركود وخمود وقعود، بل في كساح أصاب عظم المجتمع، بل نفذ إلى نخاعه."
ويرى أن غلق أبواب الأذى هذه لا يتم إلا بإصلاح اقتصادي يعيد الكرامة للعمل، ويحض على الإنتاج، وإصلاح سيسي يرتبط بالديمقراطية، واجتماعي يواجه الفقر والتهميش والتفاوت الرهيب، وقانوني يعيد لمنظومة العدالة دورها في ضبط الأحوال والمواقف.
إن هذا الكتاب يسلط الضوء على أوجاع غالبًا ما تُغفل في الإعلام الرسمي، ويشكل وثيقة فكرية يمكن الرجوع إليها لفهم مرحلة اجتماعية وسياسية حرجة في تاريخ مصر.
-------------------------
بقلم: حسين عبد الرحيم

...






