27 - 10 - 2025

كيف صنعت الكاميرا "ترامب"؟

كيف صنعت الكاميرا

لا شك في أن الدعاية والإعلام ، يلعبان دوراً كبيراً في صناعة " المرشح " بشكل عام ، والرئيس الأمريكي بوجه خاص ، حتي أنه قيل – بحق – أن منصب الرئيس في أمريكا يتم الترويج له ، كما يتم الترويج لمنتج مثل البيبسي كولا ، بنفس الفنون الدعائية لخلق الطلب علي المنتج ، أو لجذب الأصوات إلي المرشح .

إلا أن " دونالد ترامب " يعد حالة خاصة تماماً في التاريخ الأمريكي ، فقد كان لكل من سبقوه في احتلال موقع الرئاسة أو التنافس عليه ، تاريخ سياسي يستند إليه في دعايته الانتخابية ، سواء أكان ذلك موقعاً تنفيذياً في الإدارة الأمريكية آو في الحكم المحلي أو في المؤسسات التشريعية بمختلف درجاتها في الولايات ، أو في الكونجرس .

لقد عشت سنوات في نيويورك أوائل التسعينات من القرن الماضي ، وكان المعروف عن ترامب أنه مقاول ومقامر كبير وزئر نساء ، لكنه لم يتمكن من التسلل إلي كل البيوت الأمريكية إلا من خلال حلقات تلفزيونية عام 2004 في محطة MBC  ، وجاء ذلك بعد مرحلة من الإخفاقات في مشروعات فاشلة وإخفاقات وإفلاسات، ومشاكل قضائية متعددة .

كان اسم هذه الحلقات التلفزيونية " المتدّرب " The Apprentice  ، تدور حول لقاءات يجريها ترامب من قاعة مجلس الإدارة في برج ترامب الشهير في منهاتن ، حيث يوجه أسئلة للمتسابق " المتدرب" ، وفي النهاية يصدر حكمه عليه ، فإما أنه مقبول في عالم البزنيس ويتم تعيينه فوراً في أحد مشروعات ترامب ، وإما أنه فاشل ، يصدر عليه ترامب الحكم بطريقته التمثيلية الخاصة :" أنت مطرود "   you are fired  .

الواقع أن " المتدرب " الحقيقي لم يكن هو ذلك الطامح في وظيفة في إمبراطورية ترامب ، وإنما كان ترامب نفسه الذي كان يتدرب علي أساليب السلطة والإخراج والسيطرة علي الصورة .

لقد استردت " الكاميرا " ترامب من تجاربه الفاشله ذلك الوقت ، ونجحت في إخفاء إخفاقاته وتجاربه الفاشلة المتراكمة ، والقضايا المنظورة أمام المحاكم ، وآصبحت صورته التي يتابعها الناس علي الشاشة تعكس هيئة المستثمر الناجح المسيطر ، المحاط بالذهب الذي يزين جدران برجه المشهور ، بحيث نجحت الكاميرا بالفعل في فتح الطريق كي تتسلل " أسطورة ترامب " المتمكن الذي لا يعجزه شيئ ، أسطوره مصنوعة تليفزيونياً بالكامل ، منبتة الصلة بالواقع الاقتصادي أنذاك .

ومن تابع هذه الحلقات ، سيلاحظ أن ترامب كان يحتل دائماً رأس مائدة الإجتماعات ، وهو يتفحص وبشكل مبالغ فيه ، شخصيات المتسابقين أمامه ، حتي ينهي أٌغلب المقابلات بصيحته الشهيرة ، وبآداء تمثيلي قائلاً: " أنت مطرود ! " You are fired !  ، بالشكل الذي رسخ صورته علي مر السنوات التي تعكس التسلط والتحكم ، وكأنها إرادة تمتلك حق الحياة والموت علي الآخرين ، ومعها استقرت أيضاً صورة ترامب كقائد حاسم ، وزعيم لا يرحم الضعفاء .

وخلال سنوات متوالية ، كان ترامب " يتدرب " ويتعلم من الكاميرا ، ما لم يتعلمه في السياسة ( ولن يتعلمه كما أثبتت الأيام ) ، فقد أجاد السيطرة علي عواطف المشاهدين ، والمناورة بإستخدام نظرات عينيه بشكل ساخر ، وكذلك طبقات صوته التي يتلاعب بها ، وحركاته المباغتة ، كي يلفت نظر المشاهدين ويؤثر فيهم .

ولكن الأهم هو أنه نجح في أن يصنع من " الصراع " مجرد " فرجه " ، ومن " القرارات " مجرد نوع من أنواع الدراما ، وهكذا عندما أعلن ترامب عن نيته في الترشح، كان أغلب الأمريكيين يشعرون أنهم يعرفونه ، وغلبت عليهم صورته " الأسطورية التليفزيونية " التي تصدر الأوامر ، وتسيطر وتعرف الإجابات الصحيحة التي تقود إلي الربح ، بما أقنع تلك الأغلبية بأنه يستطيع إدارة " دولة " كما يدير  "شركة " .

وهكذا خرج ترامب من استديوهات التليفزيون جاهزاً للترشح لرئاسة أمريكا ، كي يكون أول رئيس أمريكي تضعه استوديوها " واقعية " ( وليست سينمائية مثل ريجان ) ، دون أن يعاني مثل كل من سبقوه من الرؤساء من فكر سياسي وعمل دؤوب .. مجرد طبل أجوف يدق في سموات العالم بتغريداته آناء الليل وأطراف النهار ، يغزل غزله في الصباح ثم ينكثه في المساء ، وعندما يواجه الكاميرات يسترد " الممثل " الذي يعرفه ، ويتوهج في الآداء ، والعالم يتابعه مبهوراً أو مستاءً ، أو خاضعاً .. ولكن من المؤكد أن الجميع يبتهلون إلي الله ألا يدفعه الإندماج في الدور إلي الضغط علي الزر النووي ، ربما برغبة المخرج في إسدال الستار .

--------------------------------------

 بقلم: معصوم مرزوق

مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

كيف صنعت الكاميرا