27 - 10 - 2025

كلمة حق.. من أحق بالمساعدة

كلمة حق.. من أحق بالمساعدة

حين نتأمل واقعنا الاجتماعي اليوم، نجد أن ثقافة الكدّ والاجتهاد بدأت تخبو أمام موجةٍ من الاتكالية والاستسهال لم يعد السعي في طلب الرزق قيمةً كما كان، بل صار بعض الناس يختار الطريق الأقصر وهو .. مدّ اليد بدلا من  مدّ الجهد، وطلب العون بدلا من طلب العمل ، ومن المؤسف أن يتحول العجز الطاريء إلى عادة، والحاجة الصادقة إلى وسيلة، فيغدو التسول أسلوب حياةٍ يخفي وراءه ضعف الإرادة لا قسوة الظروف.

غير أن الخطأ لا يكمن فيمن يسأل وحده، بل يمتد إلى من يُعطي بلا بصيرة ، فحين تمتد الأيدي بالعطاء دون وعيٍ أو تمييز، تُزرع بذور الكسل، وتُطفأ جذوة الكفاح، ويُظلَم العامل الشريف الذي يعفّ عن السؤال رغم قلة ذات اليد. وهكذا نرى أثر ذلك في حياتنا اليومية: أعمالٌ بسيطة عزّ من يقوم بها، وحِرفٌ اندثرت لأن أصحابها تركوا المهنة ولجأوا إلى ما يدرّ مالًا بلا تعب وافتقاد وجود عمالة ماهرة في كثير من الحرف التي تبدو بسيطة، ولكن المجتمع في أشد الحاجة إليها.

لكن وسط هذا المشهد، تبقى هناك وجوه مشرقة تذكّرنا بأن الكرامة لا تُشترى بالعطف، وأن العمل ـ مهما كان بسيطًا ـ هو تاجٌ على رأس صاحبه.

أتذكّر سيدةً فاضلة، كانت مثالًا للعزة والإيمان. أمٌّ لعددٍ من الأبناء، وزوجة عاملٍ متواضع، لكنّها لم تعرف الاتكالية يومًا. عملت بجدٍّ لتعين أسرتها، حتى ابتلاها الله بمرض السرطان. وبرغم ما ألمّ بها، ظلت على عهدها مع الكفاح؛ كانت تذهب لتلقي جرعات العلاج صباحًا، ثم تعود في اليوم التالي إلى عملها، ترفض أن تأخذ مالًا لم تبذل فيه جهدًا، ترى في العمل دواءً للروح قبل أن يكون رزقًا للجسد.

وأعرف أخرى لا تقلّ عنها صبرًا وإباءً. نشأت في بيتٍ كريم، ثم تزوجت رجلًا بسيطًا، ورُزقت بأبناءٍ أحدهم من ذوي الاحتياجات الخاصة. لم ترفع يديها استسلامًا، بل نزلت إلى الميدان، تعمل وتساعد زوجها في صمتٍ وإيمان. وحين أصيبت بجلطة أقعدتها جزئيًا، رفضت أن تتقاضى راتبًا عن فترة مرضها، واستأنفت العمل رغم الألم. كانت تقول دائمًا: “أكل العرق أطيب من كل إحسانٍ لا جهد فيه”.

تلك النماذج هي التي تستحق المساندة، لأنها تكافح في صمت، وتُبقي على معنى الكرامة حيًّا رغم قسوة الحياة. أمّا الذين اتخذوا من التسول حرفة، ومن تعاطف الناس مورد رزق، فهم يسيئون إلى أنفسهم وإلى مفهوم الرحمة ذاته.

لقد علّمنا الإسلام أن المساعدة لا تكون بإضعاف الهمم، بل بتقويتها. فالرحمة لا تكتمل إلا بالعدل، والعطاء الأعمى قد يتحول إلى ظلمٍ خفيّ. وقد جاء في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يَحتَطِب أحدكم حُزمةً من حطبٍ فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».

وفي هذا تأكيدٌ نبويّ عظيم على أن العمل ـ مهما كان متواضعًا ـ خيرٌ من التسول، لأن فيه صيانةً للنفس وحفظًا للكرامة.

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قاسيًا في نهيه عن السؤال، بل كان رحيمًا حكيماً، يفرّق بين من يسأل عن عجزٍ حقيقي، ومن يسأل استسهالًا. ففي حديث قبيصة بن المخارق رضي الله عنه، بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن السؤال لا يحل إلا لثلاثة: رجلٍ تحمّل دينًا لإصلاح ذات البين، أو أصابته جائحة اجتاحت ماله، أو فقيرٍ لا يجد ما يقيم صلبه.

تلك هي الرخصة الشرعية التي تحفظ كرامة المحتاج وتمنع استغلال الرحمة. فقد كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الفقر والتسول خلقًا متوازنًا يجمع بين الحنان والتقويم، بين الرحمة التي تعين الضعيف، والعدل الذي يمنع التواكل. كان يواسي السائل بحقّه إن استحق، ويأمر القادر أن يعمل، قائلاً لأحدهم: «اذهب فاشترِ قدومًا فاحتطب به، فبع، ولا أرينّك بعد خمسة عشر يومًا تسأل الناس شيئًا».

فأقام بذلك منهجًا تربويًا خالدًا: أن العطاء لا يكون عونًا على الكسل، بل دعمًا لمن يسعى ويجتهد.

إنّ واجبنا اليوم أن نُعيد للناس قيمة العمل، وأن نربي أبناءنا على أن اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى. وأن نُذكّر من يقدّم المساعدة أن العطاء بلا وعي قد يزرع الكسل بدل أن يزرع الأمل.

نحن لا ندعو إلى القسوة، بل إلى الوعي.

ولا نرفض الرحمة، بل نطالب أن تكون في موضعها الصحيح.

نساند العامل لا المتواكل، ونكرّم المكافح لا المتذرع بالظروف.

قال الله تعالى:

«وقل اعملوا فسيرى الله عملكم».

فالعمل عبادة، والكدّ شرف، والرزق لا يُنال بسؤال الناس، بل بسعيٍ مباركٍ يُرضي الله ويُعزّ الإنسان.
-------------------------
بقلم: سحر الببلاوي


مقالات اخرى للكاتب

كلمة حق.. من أحق بالمساعدة