25 - 10 - 2025

نقد أدبي | رواية مجدي نصار "روح الله الفضل حبش"

نقد أدبي | رواية مجدي نصار

حين قرأت رواية مجدي نصار روح الله الفضل حبش للمرة الأولى خرجت منها بشعور ما بالاستمتاع والدهشة، وبتحقق ظني بعظم موهبة الكاتب التي ظهرت لي من قبل من خلال تناوله للأعمال الأدبية بزاوية رؤية جديدة دائما وخاصة دائما، وكتبت تحية جاء فيها أن الكاتب مجدي نصار في روايته روح الله الفضل حبش يقدم لنا روحا قلقة في نقلات سريعة برواة متعددين ولغة لاهثة تغرق في الغواية وتسحبنا معها إلى اللا قرار، وتعلن ميلاد كاتب يمتلئ قلبه بالدهشة، ما أجمل سحر البدايات. الرواية صادرة عن دار العين.

كنت قد أدركت أن الرواية تحتاج لأكثر من قراءة لسبر أغوارها من أجل الدخول إلى عمقها. وسطع في ذهني على الفور المعركة التي قامت في عقل وروح الكاتب بين المبدع المشغول بالتجديد والتجريب العفوي المتدفق والناقد المدقق المنضبط. كانت البداية قد أربكتني بسبب عدد الشخصيات الواردة أسماؤها قبل أن يتم التعريف بها منفردة فكرت كيف يتم تناول هذا العمل الملغز وقررت تفكيك النص إلى عناصره الأولية ومحاولة فك شفرته.

تنقسم الرواية إلى عدة أقسام هي:

عالم من عيون،

عيون لا تعرف الألوان

عيون سوداء

عيون بيضاء

عيون حمراء

عيون وردية

عيون زرقاء

عيون سماوية

اختارت روح الله أن تعطي لكل شخصية لونا واختارت العيون التي تطاردها للتعبير عن كل مرحلة ووصفتها باللون الذي يتوافق معها "كل صوت يرسم في خيالي عينا ونظرة" " العالم عين كبيرة تراقبني" في مكان آخر تشكل جبلا من النظرات يحول بيني وبين حياة طبيعية.

"سجينة العيون" وضع مجدي فكرة الرقابة كحاجز يمنع روح من الانطلاق في الحياة بصورة مبالغة جدا، في كل منا يرى صورته في نفسه بشكل ويراها الناس بشكل آخر، لكنه لا يشغل نفسه إلا بمقدار بسيط بما يراه الناس، وهذا هو الشخص السوي الذي يراعي مشاعر الناس وآراءهم، لكنه لا يبالغ فيقع تحت وطأة أن يكون مجرد انعكاس لصورة متخيلة عند الآخرين فتفسد حياته، وهذا ما فعلته روح، ضخمت صورتها عند الآخرين بشكل مبالغ فيه وأصبحت سجينة لهذه العيون التي تراقبها ليلا ونهارا في حين الراوي العليم يرى أن المراقب الأكبر المحب هما القمر والشمس.

الراوي ثلاث شخصيات: روح الله ثم ينوب الراوي العليم عن القمر والشمس. المروي له غير معلوم في معظم الأحيان وروح الله في الأحيان الأخرى.

تقدم الرواية لوحة مفعمة بالحياة لمجتمع قروي شبه متمدين لا نسمع فيه عن الزراعة مطلقًا. ولا تشبه شخصياته أهل الريف في تضامنهم الإنساني الطيب الواضح بخيره ومكر شره المستتر في حدود لا يتعداها كثيرا. بل هو مجتمع أقرب لأن يكون مجتمع حارة قاهرية أو على تخوم القاهرة وامتداد الريف من حولها. مجتمع دافئ حميم لكنه فاجر في خصومته وشهواته.  البطلة روح الله الفضل حبش شخصية مرتبكة تعاني من نقص كشفت بعضه وأخفت بعضه "السر الذي تخجل حين تفشيه للنساء" شخصية مركبة تتجلى فيها عقدة النقص "نمت على قلق صحوت على قلق أكبر" فتتهم الحياة بالضغط عليها لأنها لم تخلق طبيعية وحرمت بالإضافة لهذا من الأم في طفولتها المبكرة. قدرتها على التسامح منعدمة تقريبا رغم حب الأب وزوجته ورعايتهما لها وكذلك العمة صباح والصديقة سامية والحبيب هاني. تضخم كل ما يحدث لها وتربطه بعلتها وتنتقم انتقاما مروعا دونما شفقة (أميرة وفريال).

اختار مجدي نصار عالما مشوها فهل هو مشوه بالفعل أم أن بطلته بكل ما تملك من مقومات نجاح وحب للحياة قادرة على تجاوز هذا التشوه البسيط الذي نسبه والدها إلى روح الله (روحه في وشك)، كما يصف الفقراء الطفل غير مكتمل العقل بأنه مبروك أو بركة وينسبونه إلى الله بخشوع وحزن (بالله كده) ولهذا لم يكن من الغريب أن تنشأ لها كرامات وأن تخشاها وتهرب منها وتنفيها تماما إذا ما ثبتت أمام الغير في حين يتمسك الآخرون بهذه الكرامات رغبة منهم في ملجأ أو خلاص ما. ورغم اتفاق الأسرة على تجاهل كرامات روح إلا أنهم وقت الشدة يتذكرونها ويعددونها وتتساءل هي في لحظة ما لماذا لم تتشبث بهذه الكرامات وتصدقها، فتتذكر القمر وتقرر في هذه اللحظة أن تفهم سر علاقتها به، لم تأت على سيرة الشمس أبدا بل خاطبت القمر وأدركت أنه يناوشها وأنه يعطيها القدرة على معرفة ما يحدث حولها، فجربت أن تختبره وعرفت أنه يكشف لها غيبا حدث بالفعل دون المستقبل. القمر إذا هو عالمها ورفيقها الذي يصاحب رحلة هناءتها وانكساراتها والذي ينتهي باستحواذه عليها فتصبح نقطة صغيرة فوق وجهه البعيد حين يعتلي السماء مرة أخرى. يقول قمر روح إنه يعلم الحكم والسر والمصير كأنها بنات روحه كائن من صلبه كأن صورته المطبوعة على صدرها ليست مجرد انعكاس له بل هو نفسه.

حاولت أن أتتبع الخريطة اللاهثة للكاتب وهو ينتقل بين الفقرات بإيقاع سريع حتى أرسم خطوط حركته في الزمن فكشفت أوراقه عن زمن حر غير محدد أو متواتر يسمح بوصف حركة الشخصيات عند نقطة التقائها بروح أو استدعائها لاستكمال حدث ما.

اختيار القمر والشمس كرواة اضفى فانتازيا على العمل وأعطى للكاتب أولا فرصة السماح باللا معقول لتبرير أي فعل أو رد فعل، وثانيا للكشف عن خبايا لا يمكن معرفتها إذا كان يتحدث بلسان شخص طبيعي آخر مثل تواتر فكرة في ذهنه أو المونولوج وغيرها.

لماذا سيطر القمر إذا؟ وهل كان يفترض أن تعطى مساحة للشمس بالقدر الذي أخذه القمر؟ أم أن الكاتب تعمد بهذا أن يضفي ليس مساحة من الرومانسية بقدر ما هي مساحة من السلاسة والبساطة والحنان والخيال؟ القمر مضيء لكنه ليس لاذعا، القمر نور لكنه ليس نارا القمر المنعكس على صدر روح يشير إلى أنها  ضي خافت جميل لا يمكن الاستغناء عنه (حالة الذعر التي أصابت الناس عند اختفاء القمر)

تأتي الإجابة في صفحة 32 على لسان الراوي العليم: تعرف الشمس عن روح ما يعرفه القمر لكنها في لحظة ما ربما بعد اتفاق بين الليل والنهار ستكتفي بالمراقبة لتترك المجال للقمر ،قد يمتد الأمد بروح دون أن تفسر الصلة الغريبة بينها وبين الشمس لو قدر لهما أن يلتقيا ستخبرها الشمس أن العلاقة قديمة.

لا تظهر الشمس إلا لتصف حالة الآخرين تتأمل شارع القطايفة تقول عاد يوسف من الصلاة احتضن طفله أو حولت الشمس بصرها نحو بيت هاني بالمدينة. أو قبل ثمان وعشرين سنة فرشت نوري على الدنيا ألقت الداية مجيدة نظرة أخيرة على ضريح الشيخ العجباني وهكذا لا تقترب من وصف حالة روح الله أبدًا تتركها لروح أو للقمر.

هناك إشارات لثورة يناير لا شيء مجاني فلماذا؟  

رحلة داخل نفس معذبة تبحث عن خلاص لكنها تفتقر إلى الثقة بالنفس، فتعيش مشكلات تدني احترام الذات، والنقد الذاتي المزمن، والتفكير الخيالي، غير العقلاني، والشعور بحالة ريب وشك مزمن بقدراتها، والافتقار إلى حب الذات، وتملكها للشعور بالعار، والذنب والقلق. عدم الرضا عن الذات يضعف من قدرتها على التعامل السوي مع الناس ويمنعها من إقامة علاقات صحية مع الآخرين. "أتمنى لو جئت إلى الدنيا في زمن خيالي بين عيون لا تقارن، قلوب لا تقتل". تبحث عن حل عند الأطباء في المستشفيات وتكتشف حجم الزيف والنصب، استغلال الألم. تزور الملاجئ والمستشفيات لترى التشوهات المخيفة في الوجوه والأداء. ترتبط هنا صورة الجسم الإيجابية عكسيًا بالوعي بالذات وأهمية الجاذبية الجسدية، "نظرية كارل روجرز للذات" تحلم البطلة لتهرب فيصبح الحلم ملاذا لكنه يأتي بالكوابيس أيضا فترغب في تشويه كل البشر وتغرق في أحلام اليقظة التي تزيل كل عيب من وجهها، وتتساءل لو كان الناس جميعا بهيئتي ما تأزمت، تستجمع إنسانيتها فتقترب من كل معتل وتمنحه قطعة من قلبها وتمزح قائلة إنها ستهب العليل القطع الجميلة منها حسب الحاجة. ورغم قصة الحب التي نشأت مع هاني واستعدادها للزواج به لم تستطع أن تخرج من عالمها الكابوسي أبدا، بل خلقت سببا آخر يكدر عيشها ،السر الذي لم تمتلك الجرأة لتبوح به لم تستطع أن تحب زوجة أبيها ألعاقر لأنها شعرت أنها أخذت من أبيها قطعة بعد أن صار كله لها بموت الأم.

اللغة مميزة للغاية والجملة ترسم صورا بديعة مرهقة للعقل أحيانا: موسيقى طافت بجسدين واتحدت بعرق اللذة. أو بعد صراخ واستغاثة جز على الأسنان نزاع بين الرجلين والملاءة صراع بين اليدين والوسادة، شد وجذب انتفاض وأنين تلقفتها مجيدة من رحم أمها قطعة لحم حمراء موشومة ببقع بنية. هذه الفقرة الدالة ليست صورة جمالية فحسب، ولكنها تلخيص لمعركة خروج الحياة من جسد آخر. تعكس خصوصية لغته واختصارها وكثافتها الشديدة

خلط اللهجة العامية المستخدمة في الحوار بفصحى السرد أضفت حميمية وحسا شعبيا مصريا صميما على أجواء العمل فزادت من مصداقيته.

. مرحبا بمجدي نصار، كاتبا جديدا ولد ناضجا.
-----------------------------
بقلم: هالة البدري