23 - 10 - 2025

غزة.. تبحثُ عن عُزيرٍ جديد

غزة.. تبحثُ عن عُزيرٍ جديد

مضى العُزير في طريقه إلى أورشليم، يحمل في صدره أثقالاً تنوء بها نفسه، مهمومًا كأنه لم يعرف السرور قط، حزينًا كأنه لم يختبره من قبل.. ما أثقل أن تمضي وحيدًا في طريقٍ كلُّ ما فيه موات، وما أقسى أن تقف وحدك وسط الدمار، فتكتشف أنك أنتَ الكائن الحيّ الوحيد الذي يسمع صدى أنفاسه في فراغ الموت والهلاك، زادُه طعامٌ فقير وشرابٌ يروي الظمأ، لكن من يطفئ نار الأسى؟ ومن يملأ خواء الروح؟

لا شيء يؤنسه في سفره الطويل سوى صدى وقع حوافر دابَّته، هذا ما يُثبت له أن هناك كائنًا حيًّا آخر غيره.. 

وما أن اقترب من زمام أورشليم حتى انقبض صدره أكثر وأحس أنه بالكاد يتنفس، عزَّى نفسه وهمس بصوت شبه مسموع، علّْه يُذهب عنه رهبةَ ملامسة عتبة مدينة، يعلم من قبل قدومه أنها أصبحت أثرًا بعد عين، بعد ما اجتاحها نبوخذنَصّر، ملك بابل، فسواها بالأرض وقتل كل ما فيه نبض حياة؛ بشرًا كان أو حيوانًا.

تناول العُزير صُرة طعامه وأوى إلى الظل يمضغ لقيمات جافة على مهل استعدادًا للعمل الشاق، فيما تحرك حماره بحرية في المساحة القريبة، ثم ألقى بنفسه على الأرض يتمرّغ في ترابٍ مشبعٍ بدماء الضحايا الأبرياء، ثم أطلق نهيقًا طويلاً، كأنما ينعي من قُتلوا غيلة، ويبرأ بنفسه من صنيع طغاة بني البشر الذي لم يجد لهم ندًا في عالم الحيوان..

شرع العُزير في البناء بما تيسر من حجارةٍ وملاطٍ حتى إذا ما أنهكه التعب، وشارفت الشمس على المغيب، حمل صُرة طعامه وشرابه وسحب حماره خلفه وصعد تله وأوى إلى كهف في أعلاها، ثم حانت منه التفاته فتراءى له مشهد المدينة أشد مأساوية، باستثناء الجدار الذي شرع في بنائه وترك إلى جواره أدوات البناء، بدت المدينة حطامًا، كانت (خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا)، كأنها بيتُ عنكبوتٍ عصفت به الريح، أو جحر أرنبٍ داستهُ أقدامُ فيلٍ عملاق.

أطلق زفرة طويلة وتساءل: (أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)، ثم هز رأسه في أسى، وعاد أدراجه إلى الكهف وتمدد في مكان مستوٍ، وحماره، غير بعيد منه، ممددٌ أيضًا، وسرعان ما خلد إلى النوم.

فتح العُزيرُ عينيه في تثاقل، وتململ في مكانه، ثم داهمه شعور مفاجيء بالتعب أحس معه بخلايا جسده منهكة أشد ما يكون الإنهاك، ثم سمع هاتفًا يسأله، بصوت مُحَقِق ملأ فراغ الكهف، (كَمْ لَبِثْتَ؟)؛ فتلفت حوله كأنما يبحث عنه، ثم تذكر أنه نفس الصوت الذي دعاه للخروج إلى أورشليم، فرد عليه في وجل: (لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، فأجابه بصوت كله تقرير: (بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)، ثم أردف وكأنه يشير بإصبع خفي إلى ما يتحدث عنه، (فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا). رأى العُزير بأم عينيه آيات الله تتحقق أمامه، فعلم أنها إجابة سؤاله قبل نومه/موته الطويل، وسرعان ما استغفر وأناب، وبادر متوسلاً: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

أسرع العُزيرُ وأطلّ من الكهف، فرأى صورة مغايرة تمام المغايرة عن تلك التي تركها قبل نومه، مدينةً عامرةً بسكّانها ودورها وأسواقها وزروعها، فنزل مسرعًا تتخاطفه عيون أهل المدينة وقد استغربوا هيئته وملابسه ولكنته، حتى إذا جلس إليهم وجلسوا إليه، فسمعوا منه وردوا عليه، أدركوا قصته، وسمع قصتهم، وكم كانت دهشتُه كبيرة، حين علم أن آثار محاولاته البسيطة للتعمير، كانت الحافز الذي نفخ الروح والعزيمة في قلوب من عاد من أهل أورشليم يتفقد بيته وأهله بعد الاجتياح، فشرعوا يستكملون ما بدأه، وشيئًا فشيئًا، عادت المدينة إلى سابق عهدها، زاهرة، عامرة.. أو كما قال الأخوين رحباني وشدت فيروز "زهرة المدائن"..

(لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي

لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن

يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي

عيوننا إليك ترحل كل يوم ...)

وبين أورشليم التي عادت بعد مائة عامٍ من الموات، وغزّة التي تتنفّس بين أنقاضها، وترفع رأسها من تحت الركام، تتكرر الحكاية بوجوهٍ مختلفة.. المدن لا تموت حين تُهدم، بل حين يستسلم أبناؤها.  

حفظ الله الوطن.
----------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

غزة.. تبحثُ عن عُزيرٍ جديد