23 - 10 - 2025

سد تشو تشي.. تحفة هندسية تروي ذاكرة الريف الصيني في محافظة وويوان

سد تشو تشي.. تحفة هندسية تروي ذاكرة الريف الصيني في محافظة وويوان

تعد الصين بلد العجائب الهندسية، ليس فقط في مدنها الكبرى وجسورها العملاقة وسدودها الحديثة، بل أيضًا في قراها الصغيرة التي تختزن بين جبالها إرثًا حضاريًا عريقًا صنعه الإنسان منذ مئات السنين بتصميم متقن وإبداع فريد.

ومن بين هذه الشواهد الخالدة التي ما زالت تحافظ على حضورها المدهش حتى اليوم، يبرز سد تشو تشي في محافظة وويوان التابعة لمقاطعة جيانغشي، كواحد من أروع النماذج التاريخية لـ”السدود الحجرية”، التي شكلت جزءًا لا يتجزأ من منظومة الري والزراعة والحياة اليومية في الصين القديمة.

يقع سد تشو تشي في قرية وانغكو التابعة لبلدة جيانغوان، وهي منطقة تمتاز بجمالها الطبيعي الفريد وتاريخها الثقافي العميق.

استمد السد اسمه من شكله الهندسي المميز الذي يشبه زاوية المسطرة على شكل حرف L، وهو تصميم يعكس مدى عبقرية الصينيين القدماء في توظيف أشكال هندسية بسيطة لتحقيق وظائف عملية دقيقة، تخدم احتياجات الزراعة والنقل المائي والحياة اليومية للسكان.

تحفة حجرية من إبداع الإنسان 

بني سد تشو تشي من الحجارة الجافة دون استخدام المونة، وهي تقنية تقليدية متوارثة في العمارة الصينية القديمة تعرف بدقتها العالية وقدرتها على مقاومة عوامل الزمن والطبيعة.

يبلغ طول السد نحو 130 مترًا، وارتفاعه 3.5 أمتار، فيما يصل الفرق بين منسوب المياه في المنبع والمصب إلى حوالي مترين.

وعلى الرغم من بساطة مواده، إلا أن تصميمه الهندسي البديع جعله قادرًا على الصمود لأكثر من قرون طويلة دون أن يفقد توازنه أو وظيفته.

لم يكن السد مجرد منشأة مائية للري فحسب، بل كان أيضًا شريان حياة لأهالي القرية، حيث استخدم في تسهيل الملاحة النهرية ونقل البضائع الزراعية بين القرى، إضافة إلى توفير مياه الشرب لسكان المنطقة ومواشيهم.

وقد أدى دوره الحيوي في ازدهار الزراعة واستقرار الحياة الريفية، ما جعله أحد الأعمدة الأساسية في نظام الري التقليدي في مقاطعة جيانغشي.

 قوائم الحماية والتراث

بفضل قيمته التاريخية والهندسية، حظي سد تشو تشي بتقدير واسع من السلطات الصينية والباحثين في مجال التراث الثقافي. ففي مارس عام 2018، تم إدراجه رسميًا ضمن قائمة المواقع المحمية للآثار الثقافية في مقاطعة جيانغشي، ليصبح أحد الرموز المائية التي تبرز براعة الأجداد في بناء السدود التقليدية.

ولم يتوقف الاعتراف بأهميته عند هذا الحد، إذ تم في سبتمبر 2024 إدراج مجموعة “السدود الحجرية” التي ينتمي إليها السد ضمن قائمة التراث العالمي لمشاريع الري، وهو إنجاز دولي يعكس اعتراف العالم بالقيمة التاريخية والبيئية لهذه المنشآت القديمة.

هذا الإدراج لم يكن مجرد تكريم رمزي، بل مثل تتويجًا لجهود طويلة في الحفاظ على التراث المائي الصيني، حيث تعد هذه السدود نموذجًا نادرًا للتناغم بين الإنسان والطبيعة، إذ بنيت لتخدم البيئة دون أن تدمرها، واستمرت في أداء دورها لأجيال متعاقبة بفضل هندستها المتقنة وفهمها العميق لتضاريس المنطقة ومواردها الطبيعية.

انسجام بين التاريخ والجمال

ما يميز سد تشو تشي أيضًا هو انسجامه الفريد مع المشهد الطبيعي والقرى القديمة المحيطة به. فعند زيارة المكان، يبدو السد وكأنه جزء من لوحة فنية تجمع بين الجبال الخضراء، والمياه الصافية، والمنازل الخشبية ذات الطراز التقليدي، والطرق الحجرية العتيقة التي تعبق برائحة الماضي.

هذا المشهد المتكامل لا يبرز فقط جمال الهندسة، بل يعكس أيضًا الفلسفة الصينية القديمة التي ترى في التوازن بين الإنسان والطبيعة أساسًا للحياة.

وبينما تسير على طول السد، يمكنك سماع خرير المياه يتدفق برفق على الحجارة، في مشهد يجسد السكينة الريفية التي فقدها العالم الحديث.

ولا يزال أهالي القرية ينظرون إلى السد باعتباره رمزًا للفخر والإرث، حيث يروون لأبنائهم قصصًا عن كيفية بنائه بأيدي الأجداد وكيف كان يشكل ضمانة للزراعة والحياة اليومية في أوقات الشح والجفاف.

نموذج للتراث المستدام

اليوم، أصبح سد تشو تشي جزءًا من المشروعات السياحية والثقافية في محافظة وويوان، إذ يعتبر محطة أساسية في جولات الزائرين الذين يقصدون المنطقة لاكتشاف التراث المائي الصيني.

كما تعمل السلطات المحلية بالتعاون مع الباحثين على ترميم السدود القديمة وصيانتها بطرق علمية دقيقة، للحفاظ على بنيتها الأصلية وضمان استمرارها كمصدر تعليم وإلهام للأجيال القادمة.

وينظر إلى السد بوصفه رمزًا للتراث المستدام، فهو يذكر العالم بأن الحلول الهندسية القديمة يمكن أن تكون أكثر صداقة للبيئة من التقنيات الحديثة، إذ نجحت هذه السدود في تحقيق أهدافها دون الإضرار بالأنظمة البيئية المحيطة.

كما تعد مثالًا حيًا على قدرة المجتمعات الريفية على التكيف مع الطبيعة واستغلال مواردها بطريقة متوازنة تحقق المنفعة وتحافظ على الجمال في آن واحد.

إن سد تشو تشي ليس مجرد بقايا أثرية صامتة، بل هو شاهد حي على حضارة الريف الصيني التي ازدهرت عبر قرون من الإبداع والجهد الإنساني.

 ومن خلاله يمكننا أن نقرأ فصولًا من تاريخ الصين الزراعي والهندسي، ونفهم كيف استطاع الإنسان الصيني أن يبني منظومة حياة قائمة على احترام الطبيعة واستثمار مواردها بعقلانية وإبداع.

ولعل إدراج السد في قوائم التراث العالمي هو رسالة إلى العالم أجمع بأن التراث ليس فقط قصورًا أو معابد فخمة، بل أيضًا جسور وسدود وقنوات، حملت في صمتها حكمة الإنسان القديم وإصراره على بناء مستقبل أفضل. 

وبينما تواصل الصين اليوم مسيرتها في التحديث والابتكار، يظل سد تشو تشي رمزًا للهوية الريفية ومرآة للتاريخ الإنساني الذي لا يشيخ.