19 - 10 - 2025

انتباه | هل انتهى زمن المقاومة؟

انتباه | هل انتهى زمن المقاومة؟

حين نتأمل محطات التاريخ العربي الحديث، نجد أن المقاومة لم تكن طارئة ولا هامشية منذ لحظة الاصطدام الأول مع الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، تشكل وعي الأمة عبر فعل المقاومة: من ثورات الفلاحين في مصر ضد الحملة الفرنسية، إلى انتفاضات الشام والمغرب والجزائر، حيث كان الرفض الشعبي للاحتلال أكثر صدقًا من كل الصيغ السياسية التي حاولت التكيف مع الواقع المفروض. لقد أدركت الشعوب، حتى وهي في قاع الهزيمة، أن بقاءها مرهون بقدرتها على المقاومة، وأن الاستسلام يعني المحو من الجغرافيا والتاريخ معًا.

ارتبطت اللحظات المضيئة من تاريخ العرب المعاصر بالمقاومة: ثورات التحرر الوطني التي هزّت الاستعمار العجوز، حرب الجزائر التي فجّرت ميلاد دولة على أنقاض مليون شهيد، ثورة يوليو في مصر التي جعلت من التحرر مشروعًا جامعًا، والانتفاضات الفلسطينية التي حفظت جذوة القضية من أن تنطفيء.

في كل هذه المحطات، كان فعل المقاومة هو الذي يمنح العرب معنى وجودهم، وهو الذي يفتح لهم نافذة أمل وسط العواصف.

المقاومة هنا ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي وعي بالذات، وإصرار على أن للإنسان العربي مكانًا في العالم لا يمكن مصادرته. إنها السردية التي جمعت أجيالًا متعاقبة رغم الانكسارات والهزائم، وجعلت فكرة التحرر والكرامة أكبر من حدود الزمان والمكان. 

لهذا، فإن الحديث عن "انتهاء زمن المقاومة" يبدو أقرب إلى نفي الوجود نفسه، لأن الأمة التي تتخلى عن المقاومة إنما تتخلى عن ذاتها.

لقد كان السلاح لسنوات طويلة الرمز الأكثر وضوحًا لفعل المقاومة. فمن بنادق الثوار في جبال الجزائر إلى مقاتلي الفدائيين الفلسطينيين، ارتسمت صورة المقاومة في المخيال العربي مقترنة بالبندقية والانفجار. 

غير أنّ التحولات الكبرى التي عرفها العرب خلال العقود الأخيرة جعلت هذا النموذج الكلاسيكي يواجه تحديات هائلة: غياب المشروع القومي الجامع الذي كان يمنح المقاومة غطاءً استراتيجيًا، تفكك البنية الإقليمية وتراجع التضامن العربي، تغوّل القوى الدولية التي أحكمت قبضتها على القرار المحلي، بل وحتى تحوّل بعض الدول العربية إلى خصم معلن لكل أشكال المقاومة. 

بدا وكأن المقاومة المسلحة قد وصلت إلى سقفها التاريخي، وأنها محاصرة بين عدو خارجي يتفوق عسكريًا وحاضنة عربية فقدت الكثير من روحها.

لكن هذه الصورة ليست كاملة. فغزة وحدها تكفي لدحض مقولة النهاية المطلقة؛ هناك حيث يعيش شعب تحت الحصار منذ ما يزيد على عقد ونصف، ويخوض حروبًا متكررة تفرضها عليه آلة عسكرية من الأشد فتكًا في العالم، ما زال فعل المقاومة حاضرًا ومبهرًا بقدرته على الصمود والتجدد. 

صحيح أن المقاومة المسلحة لم تنتهِ، لكنها لم تعد وحدها التعبير الكامل عن روح المقاومة، بل أصبحت أحد وجوهها المتعددة.

وإذا كان السلاح أحد أشكال المقاومة، فإن الأشكال الأخرى باتت اليوم لا تقل أهمية وربما تفوقه أثرًا في بعض اللحظات. فقد فتحت الثورة الرقمية فضاءً جديدًا للنضال، حيث لم تعد المعركة على الأرض وحدها، بل أصبحت أيضًا معركة على الرواية والسردية. ما ينشره شاب فلسطيني عبر هاتفه المحمول قد يُحدث صدى عالميًا أكبر من أي بيان سياسي، ويعيد صياغة وعي ملايين البشر حول حقيقة الصراع. وفي موازاة ذلك، تتجلى المقاومة في الاقتصاد، حيث يسعى البعض إلى كسر حلقة التبعية والديون عبر الإنتاج الوطني والاكتفاء الذاتي، فيتخذ الصمود الاقتصادي شكلًا من أشكال المواجهة لا يقل خطورة عن أي مواجهة عسكرية. كما أن الثقافة نفسها تحولت إلى ساحة مركزية للمقاومة: اللغة، الأدب، الفنون، والموسيقى، كلها أدوات تحمي الهوية من الذوبان وتمنح المجتمع العربي حصانته في وجه ثقافة الهيمنة.

أما أشد أشكال المقاومة عمقًا فهي تلك التي تمارسها الشعوب في حياتها اليومية. أن يبقى الفلسطيني متمسكًا بأرضه رغم الاستيطان، أن يحافظ على بيته في القدس رغم التهديد والهدم، أن يفتح مدرسته في غزة رغم الحصار؛ هذه ليست تفاصيل عابرة، بل هي جوهر المقاومة وصورتها الأكثر صدقًا. إنها مقاومة لا تصنع العناوين الكبرى دائمًا، لكنها تمنح الأمة أسباب البقاء والاستمرار.

وحين نتساءل: هل انتهى زمن المقاومة؟ لا نسأل عن مصير السلاح وحده، ولا عن مآل تنظيمات بعينها، بل نطرح سؤالًا أعمق يتعلق بالإرادة نفسها: 

هل ما زالت لدى الشعوب العربية القدرة على الرفض؟ هل بقي في وجدانها ما يكفي لتحدي المستبد في الداخل والمحتل في الخارج، أم أن الانكسارات المتكررة أنهكت روحها وأطفأت جذوة المقاومة فيها؟ 

المقاومة في جوهرها إعلان عن حق الإنسان في أن يكون حرًا، في أن يرفض المهانة، وفي أن يثبت حضوره رغم كل أشكال القهر. لهذا، فإن انتهاء المقاومة يعني عمليًا انتهاء القدرة على الوجود بمعناه الأصيل. 

الأمة التي تتخلى عن المقاومة إنما تتخلى عن ذاتها، لأنها تسلّم بأنها عاجزة عن الدفاع عن حقها في الحياة.

والتاريخ يعلمنا أن كل مرحلة من مراحل الانكسار كانت تولّد مقاومتها الخاصة. حين بدا أن الاستعمار الأوروبي قد أحكم قبضته على البلاد العربية، ولدت حركات التحرر. وحين ظن الاحتلال الإسرائيلي أن الفلسطينيين قد استسلموا، انفجرت الانتفاضات. وحتى حين ترسخ الاستبداد في الداخل، لم يتوقف الناس عن التمرد، وإن أخذ أشكالًا خافتة أو متقطعة. وهكذا، فإن سؤال النهاية لا يصمد طويلًا أمام حركة التاريخ؛ فالشعوب قد تبدو صامتة، لكنها في لحظة الحقيقة تعيد اختراع أدواتها وتفاجئ الجميع بمقاومة لم يتوقعها أحد.

المقاومة لم تنتهِ، ولن تنتهي، لأنها ليست مجرد بندقية تُرفع أو راية تُلوَّح، بل هي روح أمة تُصرّ على البقاء.

قد تتراجع أشكالها أو تتبدل أدواتها، لكنها تعود دائمًا بأقنعة جديدة ولغات مختلفة، لأنها جزء من معادلة الوجود نفسه. 

وما يبدو اليوم وكأنه صمت أو انكسار قد يكون في جوهره طورًا من أطوار التهيؤ لموجة جديدة من المقاومة، أشد نضجًا وأكثر قدرة على ملامسة روح العصر. 

السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس: هل انتهى زمن المقاومة؟ بل: أي مقاومة نحتاج في زمننا هذا؟ كيف نعيد تعريفها بحيث تشمل السلاح والسياسة، الاقتصاد والثقافة، الشارع والفضاء الرقمي، دون أن نفقد جوهرها الأول: إرادة الحرية والكرامة؟

إذا كان التاريخ قد أثبت أن هذه الأمة لا تعيش إلا بالمقاومة، فإن المستقبل لن يكون إلا بما تستحدثه من صيغ جديدة للمجابهة. وهكذا يظل السؤال مفتوحًا، لا كإعلان نهاية، بل كدعوة دائمة إلى ابتكار أشكال مقاومة تحفظ لنا معنى أن نكون.
-----------------------
بقلم: محمد حماد

مقالات اخرى للكاتب

انتباه | هل انتهى زمن المقاومة؟