لم تكن زيارتي إلى سور الصين العظيم مجرد رحلة سياحية عابرة، بل تجربة إنسانية وثقافية غيرت نظرتي إلى معنى الإصرار والعظمة البشرية.
كانت الرحلة ضمن برنامج نظّمه مركز الصين الدولي للتواصل الصحفي لوفد إعلامي وصحفي من مختلف الدول العربية والإفريقية والأوروبية، وجاءت لتتيح لنا فرصة فريدة لاكتشاف واحد من أعظم المعالم التي شيدها الإنسان على مر العصور.
من بكين إلى بوابة التاريخ
انطلقت الرحلة صباحًا من العاصمة الصينية بكين، حيث تجمع الوفد وسط أجواء من الحماس والترقّب.
كانت السماء صافية، والشمس تشرق بهدوء فوق المدينة التي تجمع بين الحداثة والعراقة في مشهد مدهش.
ومع تحرك الحافلة نحو الشمال الغربي، بدأت ملامح الطبيعة تتبدل تدريجيًا؛ ناطحات السحاب تبتعد، لتحل محلها جبال خضراء ووديان هادئة تنبض بجمال طبيعي أخّاذ.
الطريق إلى منطقة بادالينغ، أشهر أجزاء السور وأكثرها زيارة، كان أشبه بمقدمةٍ لملحمة تاريخية.
كل منحنى وكل تل يذكرك بأنك تقترب من أعظم مشروع هندسي عرفه العالم.
وبينما كنا نصعد تدريجيًا نحو الجبال، كانت مشاعر الترقب تزداد، وكأننا على موعدٍ مع الماضي بكل ما فيه من عظمة وهيبة.
لحظة الوصول.. دهشة البصر والروح
ما إن وصلنا إلى بوابة بادالينغ حتى وجدت نفسي أمام مشهدٍ يفوق الوصف.
السور يمتد أمامي في الأفق كأفعى حجرية تتلوى بين القمم الجبلية، شامخًا رغم مرور آلاف السنين.
كان الهواء باردًا ومنعشًا، والسماء تلامس الحجارة القديمة التي شهدت على حضارةٍ لا تُنسى.
بدأتُ الصعود على السور بخطواتٍ بطيئة، لا من التعب، بل من الدهشة.
كل درجةٍ كنت أعتليها كانت تقرّبني أكثر من السماء، وتغمرني بإحساسٍ لا يوصف بالفخر والرهبة.
الحجارة الصلبة تحت قدمي كانت تحمل صدى أقدام ملايين من البشر الذين مرّوا من هنا عبر القرون — جنود، عمّال، ملوك، ورحّالة جاؤوا من كل أصقاع الأرض.
الصعود لم يكن سهلًا، فالسور يمتد على تضاريس وعرة، ويتعرّج صعودًا وهبوطًا بشكل متواصل، لكن المنظر البانورامي الذي يحيط بك من كل جانب يستحق كل لحظة تعب.
الجبال متلاصقة كأمواجٍ خضراء، والسور يسير فوقها كخيطٍ من المجد لا ينتهي. في تلك اللحظة، شعرت أنني أسير فوق الزمن ذاته.
التاريخ الذي لا يموت
بينما كنت أتابع الصعود، راودتني فكرة أن هذا السور لم يُبنَ ليمجّد شخصًا أو حاكمًا، بل ليمثل إرادة أمة بأكملها.
سور الصين العظيم هو ثمرة عصورٍ من العمل المتواصل بدأ منذ أكثر من ألفي عام، حين قررت الصين أن تبني جدارًا يحميها من الغزوات الشمالية، فتوحدت الأسوار الصغيرة لتشكّل هذا الحاجز العملاق الذي يمتد لأكثر من 21 ألف كيلومتر.
شارك في بنائه ملايين العمال والجنود، بعضهم قضى نحبه أثناء العمل، لتصبح الحجارة شاهدًا على تضحياتهم.
تذكرت وقتها رواية الدكتورة وي تشي رونغ، أستاذة بجامعة الدراسات الدولية ببكين، حينما استعرضت قصة إنسانية مؤثرة مرتبطة بتاريخ سور الصين العظيم، عن امرأة تركت بيتها لتبحث عن زوجها الذي شارك في بناء السور، وعندما علمت بوفاته جلست قرب الجدار وانهارت باكية، لتخلّد تلك القصة رمز التضحية والإخلاص في الذاكرة الشعبية الصينية.
كان السور آنذاك رمزًا للقوة والانضباط، واليوم صار رمزًا للسلام والوحدة والتاريخ. لا عجب أن اختارته اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي عام 1987، وأن يصنف كأعجوبة من عجائب الدنيا السبع الجديدة.
الصين التي تجمع بين الأصالة والتجدد
ما يميز زيارة سور الصين العظيم أنك لا ترى مجرد أثرٍ قديم، بل تلمس كيف نجحت الصين في الحفاظ عليه كجزءٍ حيّ من هويتها، فالمكان منظم بشكل دقيق، ومجهز بكل ما يسهّل على الزوار التنقل والتأمل والتقاط الصور.
ورغم هذا التنظيم الحديث، إلا أن عبق التاريخ لا يغيب لحظة؛ فكل زاوية تحمل روح الأجداد الذين شيّدوا هذا المعلم بأيديهم العارية.
الصين، كما رأيتها خلال الرحلة، ليست دولةً فقط، بل حضارة حية قادرة على الجمع بين الماضي المجيد والحاضر المتقدم.
كانت هذه الفكرة تتجسد بوضوح في نظرات الناس، في طريقتهم في الحديث عن تاريخهم، وفي احترامهم لهذا السور الذي يرونه امتدادًا لكرامتهم الوطنية وذاكرتهم الجماعية.
لحظات تأمل بين السماء والحجارة
توقفت عند إحدى نقاط المراقبة العالية، ونظرت حولي، الصمت يخيّم على الجبال، لا يُسمع سوى صوت الرياح التي تمرّ بين الأبراج القديمة.
وقفت هناك طويلاً، أتأمل المشهد، وأشعر بامتنانٍ كبير لكوني أعيش هذه اللحظة التي اختلط فيها الواقع بالأسطورة.
من الأعلى، بدا السور وكأنه يتحدى الزمن. يمتد في الأفق بلا نهاية، يتلوى بين الجبال كما لو كان مخلوقًا أسطوريًا يحرس الأرض منذ الأزل، في تلك اللحظة، أدركت أن هذا الصرح لا ينتمي فقط إلى الصين، بل إلى الإنسانية كلها، هو شاهدٌ على ما يمكن للبشر أن يصنعوه حين تتوحد إرادتهم.
لقاء الثقافات
الرحلة لم تكن فقط مغامرة في المكان، بل كانت أيضًا تجربة إنسانية غنية جمعت صحفيين وإعلاميين من دولٍ متعددة.
كل شخص كان يحمل خلفية ثقافية مختلفة، لكننا التقينا جميعًا في نقطةٍ واحدة، الانبهار بهذا المعلم الفريد.
تبادلنا الأحاديث والانطباعات، وصارت الحجارة القديمة خلفيةً لحوارٍ عالمي حول الحضارة والتاريخ والتواصل بين الشعوب.
أحد الزملاء من إفريقيا قال: "نحن هنا لا لنرى السور فقط، بل لنتعلّم كيف تبني الأمم مجدها وتخلّده"، كانت كلماته تختصر معنى الرحلة كله.
الدرس الذي تركه السور في نفسي
عند نهاية الصعود، وبينما كنت أستعد للعودة إلى الحافلة، التفتُّ إلى الخلف لألقي نظرة أخيرة على السور الممتد بين الجبال.
شعرت بشيء من الحنين، وكأنني أودّع صديقًا قديمًا، في داخلي، كان هناك يقين بأنني تعلمت درسًا لا يُنسى، أن العظمة لا تأتي بالصدفة، بل بالعمل والتضحية والإصرار.
لقد بني هذا السور بالحجارة، لكنه صمد لقرون لأنه بُني أولًا بالإرادة.
وفي عالمنا اليوم، الذي تتغير فيه الأشياء بسرعة، يبقى سور الصين العظيم تذكيرًا بأن ما يُصنع بالإيمان يبقى خالدًا مهما مرّ الزمان.
نهاية الرحلة وبداية الحكاية
حين عادت الحافلة بنا إلى بكين، كان الغروب يرسم لوحاتٍ مذهلة على الجبال، والسور يختفي تدريجيًا خلف الضباب.
لكن صورته لم تختفِ من ذاكرتي، أدركت أن الرحلة انتهت مكانيًا، لكنها بدأت في داخلي معنويًا.
سور الصين العظيم لم يكن مجرد حجارة متراصة، بل حكاية وطنٍ يعرف كيف يصنع تاريخه بيديه ويحافظ عليه، ومن يقف عليه يشعر أنه يقف على إنجازٍ بشري لا مثيل له، على جدارٍ من العزيمة والكرامة والتاريخ.